يقف اللبناني الجديد أمام المصرف، أمام الشرطة، أمام السياسي، أمام الجماعة المليشياوية، ويعرف أنّ خلف ظهره مليون لبناني مثله
المشهد رقم 1:
يدخل رجل حاملاً فأساً إلى مصرف لبناني. يصوّره زملاؤه من الذين يجالسون المصارف لساعات يومياً، أملاً في الحصول على مئتي دولار أمريكي. هي حصّة اللبناني الأسبوعية من الأوراق الخضراء: 200 دولار. يدخل بالفأس، صارخاً إنّه يريد وديعته: "أموالي يا نصّابين".
لا نعرف ما جرى بعدها. الفيديو الذي انتشر لا يقول أكثر. لكنّ عشرات المودعين والمنتظرين يتضامنون معه ومع الفأس. يصوّرون ويوزّعون. التضامن بالتصوير. الهجوم بالكاميرا إلى جانب الفأس.
يقف اللبناني الجديد أمام المصرف، أمام الشرطة، أمام السياسي، أمام الجماعة المليشياوية، ويعرف أنّ خلف ظهره مليون لبناني مثله، من الذين ملأوا الساحات وقطعوا الطرق، وهتفوا وهدرت هناجرهم بالشتائم للسياسيين.. يقف ويشعر أنّه إنسان مليونيّ، وليس مواطناً وحيداً، كما كان حاله قبل 17 أكتوبر.
ربما يجب أن يكون الفأس شعاراً جديداً للثورة، إلى جانب القبضة المرفوعة في ساحة الشهداء بوسط بيروت. الفأس باعتباره رمزاً لـ"العنف الثوري"، الآتي قريباً ربما، الذي سيصطدم بالمصارف، على ما يبدو.
المشهد رقم 2:
تقف فتاة لا يزيد عمرها عن 25، أمام ضابط شرطة، وتصرخ بوجهه، رافضة الخروج من الشارع، وهي تحاول قطع الطريق، في واحد من المشاهد الكثيرة واليومية، اعتراضاً واحتجاجاً على الأزمة السياسية والمعيشية. تدخل السجن لـ24 ساعة، وتخرج حاملة قبضتها، كما لو أنّها حقّقت انتصاراً تاريخياً. هو فعلاً انتصارها الكبير: وقفت بوجه "الدولة"، وصرخت، وحين سجنت، كان المئات يهتفون خارج مركز الشرطة، وجاء عدد من المحامين المتطوّعين، وضجّت وسائل الإعلام بالخبر. وخرجت الفتاة. انتصرت. وأهدت انتصارها لـ"الثورة".
المشهد رقم 3:
على تقاطع إشارات في شارع الحمرا، يوقف الشرطي السير، ليسمح بمرور موكب أحد السياسيين. حتى الآن كان المشهد عاديّاً. لكن يتقدّم شاب بسيارته، قاطعاً الطريق على الموكب، وصارخاً بأنّ الإشارة خضراء من جهته، ويحقّ له المرور قبل الموكب. أخذ وردّ، تنطلق أصوات زمامير السيارات الأخرى، تضامناً مع الشاب. تتقدّم السيارات وراءه، ينحشر الموكب. يتراجع. تتقدّم إحدى سيارات الموكب، فداءً لبقية الموكب، تقطع الطريق، وتحتجز الغاضبين، وتعلق معهم، كي يكمل الموكب طريقه.. ليس انتصاراً كاملاً، لكنّه مشهد جديد في يوميات اللبنانيين الجديدة.
المشهد رقم 4:
مئات الشبّان يهتفون "شيعة، شيعة، شيعة". يتقدّمون من "الخندق الغميق" باتجاه جسر الرينغ، حيث الثوّار اللبنانيون يفترشون الأرض ويقطعون الطريق. الآتون عددهم أكبر بكثير من عدد الثوّار. كاميرات التلفزيونات تنقل في بثّ مباشر.
الثوّار، القليلون، غير المجهّزين للعراك، وغير المدرّبين عسكرياً، كما يفترض أن يكون الشبّان المعتدون، لا يخافون. يهتفون "شيعة، شيعة، شيعة". يردّون بالمثل. في سنوات سابقة، وقبل أسابيع، كان هؤلاء يمكن أن يهربوا، أن يخافوا، أن يركضوا للنجاة بأنفسهم. لكن اليوم المشهد تغيّر. يثبتون. تطلب منهم القوى الأمنية أن يتراجعوا، يرفضون. يتعرّضون للضرب، يردّون، يدافعون عن أنفسهم: "ما منخاف"، يقول أحدهم والدم يتسرّب من أنفه المكسور.
المشهد رقم 5:
في وسط بيروت، حيث اعتاد شبّان حركة "أمل" أن يضربوا الثائرين، شاب طويل وضخم البنية، يمتدح الرئيس نبيه برّي، يقول إنّه يعشقه. يتقدّم منه شاب أقصر منه بأربعين سنتمتراً على الأقلّ، وبجسد نحيل، ويصفعه على خدّه الأيسر.
المشهد غريب إلى حدّ مخيف. ربما هو مشهد كاريكاتوري. من أين جاءت هذه الجرأة؟ من أي جاءت هذه الشجاعة. هذه الصفعة قد تكلّفه حياته. لكنّه أصرّ عليها. وبدا، وهو يصفع خدّ شاب "أمليّ"، كما لو أنّه يصفع مرحلة لبنانية كاملة. تتكثّف المعاني في هذه الصفعة إلى حدّ تاريخيّ. ثمّة شيء انكسر في وعي اللبنانيين. ثمّة خوف يغادر تائهاً. والشاب الضخم، الذي بدا مسكيناً هو، وليس الشاب الذي صفعه، لم يفهم بعد أنّ شيئاً كبيراً يتغيّر في لبنان.
بقيّة المشاهد:
بات هناك إنسان لبناني جديد. سوبرمان لنقل، أو على الأقلّ "قبضاي"، لا يخشى التعرّض للضرب، ولا يخاف ولا يتراجع أمام "الشرطة"، ولا يحسب حساباً لموكب أمني، ولا يتروّى في صراعه مع المصرف.
نشهد ولادة إنسان لبنانيّ جديد، بوعي مختلف، حيث "السلطة" باتت "تهمة".
هناك نواب وصلوا إلى الاستشارات النيابية في قصر بعبدا بسيارات لوحاتها ليست "زرقاء"، كما هي لوحات النواب، بل بيضاء، مدنية، محايدة. قبل هذا كانت اللوحة الزرقاء دلالة على "الرفعة" والقوّة.. باتت اليوم مكروهة، ويتبرّأ منها صاحبها.
يقف اللبناني الجديد أمام المصرف، أمام الشرطة، أمام السياسي، أمام الجماعة المليشياوية، ويعرف أنّ خلف ظهره مليون لبناني مثله، من الذين ملأوا الساحات وقطعوا الطرق، وهتفوا وهدرت هناجرهم بالشتائم للسياسيين.. يقف ويشعر أنّه إنسان مليونيّ، وليس مواطناً وحيداً، كما كان حاله قبل 17 أكتوبر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة