العقوبات الأمريكية على إيران أصبحت هي بمثابة الشماعة أو المشجب الذي علقوا عليه جميع أخطائهم
مقتل سليماني قائد فيلق القدس، الرجل الثاني الأقوى في إيران بعد علي خامنئي، كان الحدث الافتتاحي الذي بدأ به عام 2020، وسيبقى طوال هذا العام هو المحرك الأساسي لعدد كبير من الأحداث المقبلة. قال الإيرانيون: "إيران قبل سليماني غير التي بعد سليماني"، وهكذا أيضا رد الأمريكيون بأن المنطقة بدون سليماني ستكون غير ما كانت عليه في وجود سليماني.
إذن بلغة السياسي نحن أمام ما يمكن أن نسميه "المحرك الرئيسي لما قد يحدث في هذا المحور "الأمريكي - الإيراني".
منذ مقتل سليماني انهالت التحليلات في معرفة وتوقع ما يمكن أن يكون عليه الرد الإيراني في المنطقة، ولغة التصعيد هي المسيطرة، هل سترد إيران؟ وكيف سترد؟ وأين سترد؟
لم يغب الأمر كثيرا وخرجت الخارجية الإيرانية لتؤكد أن جميع المواقع الأمريكية في المنطقة هي أهداف مشروعة للإيرانيين، وأكدت أنها ستبتعد عن الأهداف المدنية. ورد ترامب بأن هناك 52 هدفا إيرانيا جاهزا للضرب ولن يكلف الأمريكيين سوى ضغطة زر بسيطة. ولعل العدد هنا "52" يمثل في الذاكرة الامريكية جرحا غائرا، يذكرهم بالـ"52" رهينة الأمريكيين الذين احتجزهم الإيرانيون إبان الثورة الخمينية في 1979.
وبالتالي ترامب يريد بهذا الرقم أن يغازل الشعب الأمريكي لضمان غطاء شعبي لما فعله وما قد يضطر لفعله مع الإيرانيين. ولعل الرسومات توضح كيف تم اصطياد سليماني "عبر طفل جالس في ولاية نيفادا" الأمريكية يلعب لعبة إلكترونية على جهاز الكمبيوتر وتوضح أيضا استعداد الأمريكيين للدخول إلى مزيد من تلك الألعاب الموجعة للإيرانيين.
هنا سأحاول أن أرد وأفند مجموعة من السيناريوهات التي طرحت. أولها هل سيرد الإيرانيون؟ ذلك هو السؤال الأصعب، فالإيرانيون والأمريكيون صعدوا إلى الشجرة وليس من السهل النزول من عليها بلا موقف وبلا رد، خرج الخنجر من الغمد وعليه ألا يعود إلا وهو مغمس بالدم.
لقد أصبحت العقوبات الأمريكية على إيران هي بمثابة الشماعة أو المشجب الذي علقوا عليه جميع أخطائهم، وبالتالي حين يخرج النظام الإيراني إلى شعبه ويقول لهم سنرفع سيفنا في وجه من يريد تجويعنا، سيلتف حوله الشعب، وسينسون مطالبهم
إذن الإيرانيون محشورون في زاوية صعبة، إذا لم يردوا فهذا انتحار سياسي بالنسبة لهم أمام شعبهم. وإذا ردوا فهو انتحار عسكري أمام الجبروت الأمريكي.
في الواقع، إن من مصلحة إيران التصعيد ولا سيما مع الولايات المتحدة، انطلاقا من عقيدة الخميني القديمة منذ وجود الحكم الخميني في إيران، وهو أقدس حرب لديهم هي محاربة الشيطان الأكبر وهو أمريكا.
النظام الإيراني من الداخل يحتاج رافعة تعيد إحياءه من جديد بعدما تعرض لكثير من نكبات تمثلت في ثورته الأخيرة التي زلزلت عرشه وما زالت مستمرة، تمر بحالة من الهدوء الحذر، تنشط أحيانا ثم تهدأ من جديد.
هذا النظام الذي تصدع سياسيا على وقع حراك الشعب الإيراني منذ ثورته المخملية في 2009 مرورا بموجاته الثورية 2017 – 2018 – 2019، يحتاج مبرر وجود حقيقي. فكيف يتحقق ذلك مع التصعيد ضد الأمريكيين؟
العارفون بتركيبة الشعب الإيراني بتطور وجود النظام الخميني يدركون أن الشيء الوحيد القادر على توحيد لحمة الشعب يتحقق حين يكون هناك خطر خارجي، تلك ثقافة شعب استغلها الماكر السياسي الخميني، حدث ذلك وتم تجريبه بالفعل في حرب الثماني سنوات بين "عراق صدام حسين، وإيران الخميني".
فلولا هذه الحرب لما كان هناك نظام خميني ولا جمهورية إسلامية إيرانية، فلقد كانت الحرب منقذا حقيقيا من خلافات وصراعات ما بعد الثورة، صراعات بين أقطابها الحقيقين، الإسلاميين وجماعة رجوي ومن معهم من البازار وبين الشعب من ناحية أخرى.
ولو ترك النظام لهذه الصراعات لمات وتآكل، لكن حين اندلعت الحرب الكل نسي تلك الصراعات وتوحد حول خطر وجود الدولة الإيرانية نفسها بغض النظر عن النظام.
الآن التاريخ يعيد نفسه، إيران الآن في خطب مسؤوليها وعرابي النظام يقولون إنها معركة وجود، بل يستحضرون ما فعله الأمريكيون بالعراق، وبالتالي الشعب الإيراني الذي يكره النظام بات محيرا بين رغبته في تغيير النظام الخميني ووجود إيران المهدد خوفا من أن يتحولوا إلى صورة أسود مما آل إليه وضع العراق بعد الاحتلال.
بالتالي المتابع للتصريحات يتأكد أن النظام يدفع ناحية التصعيد. هناك متغير آخر يجعل النظام الإيراني يدفع ناحية التصعيد والرد؛ وهو: الانتخابات الرئاسية المقبلة 2021، فتلك انتخابات شديدة الأهمية، بل يراها البعض انتخابات فارقة في تاريخ إيران، المرشد يحتاج سمات خاصة جدا في الرئيس القادم:
ألا يكون من فريق الإصلاحيين القدامى مثل حسن روحاني، بل يحتاج رجلا عسكريا خصوصا إذا كان من فريق قاسم سليماني، وطبعا يا حبذا لو هناك مرشح يرفع صورة قاسم سليماني الذي حولته ماكينة الإعلام المتشدد الإيراني إلى رجل ثورة.
في عام 2005، اشتغل علي خامنئي وفريقه في ترتيب أوراق لعبة الانتخابات الرئاسية إلى المجيء بأحمدي نجاد، رجل من عامة الشعب غير معروف، شخصية ضعيفة جدا، لكننا عرفنا فيما بعد أنه كان مجرد رقم أو اسم أو رئيس ليس له دور سوى أنه يمثل حلقة فاصلة بين الإصلاحيين الذين مثلهم وقتها محمد خاتمي الذي رأس إيران على مدار ولايتين، وبين مرحلة الصقور، واكتشفنا بعد ذلك أن أحمدي نجاد ما هو إلا مجرد رجل من رجال قاسم سليماني.
الآن أيضا هم في حاجة إلى رجل آخر متشدد، وربما يكون عسكريا، أو من أبناء الحرس الثوري ليفصل بين حقبة حسن روحاني، وحقبة من يأتي بعده. وهذا ممكن أن يحدث لو دخلت إيران في حرب مقدسة بلغتهم مع الأمريكيين.
إذن مصلحة النظام تقوم كاملة على وجود صدام حقيقي مع أمريكا، خصوصا إذا أضفنا المتغير الأهم؛ وهو الذي يصب في مصلحة النظام وينحاز إليه الشعب الإيراني. وهو العامل الاقتصادي في الصراع، لقمة عيش الناس.
يعمل النظام الإيراني على تسويق مجموعة من المفاهيم في الفترة الماضية تقوم على تحميل العقوبات المسؤولية الكاملة على تجويع الشعب الإيراني، وأن العقوبات هي سبب كل شيء. والغريب أن النظام قلب العقوبات الإيرانية إلى صالحه، فالعقوبات هي سبب الأزمة الاقتصادية وليس الفساد السياسي.
العقوبات هي سبب الضائقة المادية وليس ما ينفقونه على أذرعهم الإرهابية في لبنان وفي العراق وفي اليمن.
لقد أصبحت العقوبات الأمريكية على إيران بمثابة الشماعة أو المشجب الذي علقوا عليه جميع أخطائهم، وبالتالي حين يخرج النظام الإيراني إلى شعبه ويقول لهم: "سنرفع سيفنا في وجه من يريد تجويعنا"، سيلتف حوله الشعب، وسينسون مطالبهم.
السؤال الآخر الذي ردده الكثيرون وحاول أن يجيب عنه الكثيرون؛ هو: كيف سيكون الرد؟ وأين سيكون الرد؟ لقد أجاب الإيرانيون عنه فعلا، وأجابوا عنه عمليا وليس نظريا. سأقول لكم إن الرد قد تم بالفعل، وهذا تحليل سياسي مبني على أدلة من الواقع والتجربة الإيرانية ومن تصريحاتهم الأخيرة.
لقد استخدم الإيرانيون جميع أوراقهم التي يمكن أن يلعبوا بها في إطار معركة كهذه.
أولا: الدخول في معركة قصيرة الأمد محدودة مع الأمريكيين، وهي عبارة عن ضربات انتقائية لأهداف أمريكية ليس من باب إحداث خسائر موجعة للأمريكيين، بل من أجل استفزازهم للدخول في معركة أوسع، وهذا ما حدث خلال الشهور القليلة الماضية حين تم إسقاط عدد من الطائرات المسيرة الأمريكية.
الشيء الآخر الذي يوضح استراتيجية إيران في الدخول إلى صراع مع أمريكا في المنطقة ينبني على عدم الدخول في معركة مع أمريكا منفردة، وإنما تسعى دائما إلى إقحام عدد من الدول والأطراف الدولية في معركتها مع الأمريكان، حتى يضمنوا وجود أطراف أخرى غير الأمريكيين يمكن لهم أن يقيموا معهم حوارا إذا أرادوا وقف القتال أو إيجاد باب للخروج.
وهذا ظهر جليا في حربهم الماضية أولا؛ إقحام المملكة العربية في صراعهم مع أمريكا. وهذا تمثل في مجموعة الاعتداءات الإيرانية على مواقع سعودية؛ كان أبرزها: العدوان الإيراني على معملين لتكرير النفط تابعين لشركة أرامكو في محافظة أبقيق في المنطقة الشرقية، وهجوم بعشر طائرات مسيرة وعدد من صواريخ كروز الإيرانية.
كان ذلك في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي.
ثانيا الهجوم على محطتي ضخ النفط في الرياض تغذيان خط أنابيب شرق – غرب الذي ينقل النفط من حقول المنطقة الشرقية إلى ميناء ينبع على الساحل الغربي السعودي. ثالثا: محاولة إقحام دولة الإمارات العربية المتحدة في صراعهم مع أمريكا.
تمثل ذلك في الهجوم على 4 سفن تجارية قبالة ميناء الفجيرة في مايو/أيار 2019.
وطبعا ولحسن الحظ فإن الدولتين "السعودية والإمارات" كانتا على وعي كامل بعدم الوقوع في الفخ الإيراني بالانجرار إلى تلك المعركة.
وفعلا تم التعامل بذكاء تحت مبدأ النأي بالنفس.
ثالثا إقحام بريطانيا في ذلك الصراع حينما خطف الإيرانيون السفينة البريطانية "استينا إمبيرو" في يوليو/تموز من العام المنقضي، وتم من خلالها الضغط على البريطانيين ليصلوا إلى صيغة لإحياء "الاتفاق الإيراني النووي الذي ولد ميتا"، وبريطانيا فوتت عليهم الفرصة فعلا.
من هنا أصل إلى نقطة مهمة مفادها أنه ليس هناك قلق من الرد الإيراني لأننا جربناه، وعرفنا حدوده.
أما فكرة استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة، فهذا مستبعد تماما لأن إيران لم تصل إلى تطوير منظومة صواريخها بشكل يمكنها من التعامل مع المنظومة الأمريكية الدفاعية، أي أن أي صاروخ إيراني سيتوجه ناحية أي من القواعد سيسقط قبل وصوله إلى الهدف.
نكمل بقية السيناريوهات في مقال آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة