وتاريخ الأكراد، مفعم بالثورات والخيبات.
منْ كثرت مطالعاتهم في التاريخ، يسهل عليهم أن يروْا تاريخاً يُكتب أمام أعينهم، في عفرين، موطن الكرد (شمال سورية). الفارق الوحيد أن التاريخ بمعنى الماضي أضحى مدوناً، ويتوقف على صدقية رواته ومدونيه.
بيد أن ما يحدث في عفرين هو حاضر، لكنه يتقاطع مع الماضي، ويطمح إلى صياغة المستقبل، ومهم جداً أن نتذكر أن التاريخ لا يُصنع من العدم، بل تتسبب فيه أحداث ماضية، والخشية من أحداث لاحقة، وبهذا التشابك والتعقيد تتجسّد «لعبة الأمم» التي نراها في عفرين ومناطق واسعة في البلدان التي يتواجد فيها الكرد. شخصياً، لا أتحدث عن الكرد من عاطفة جياشة ومعلومات هامشية بل من معرفة عميقة بتاريخهم وعلاقات قوية تربطني مع زعامات كثيرة منهم.
مع أن الإعلان الأمريكي أثار ردود فعل غاضبة من تركيا، ما حدا بواشنطن إلى التنصل منه، إلا أن تركيا فهمت بشكل مباشر أن تلك القوة ستستهدفها إن عاجلاً أو آجلاً. ولذلك اعتبر أردوغان القوة الحدودية المزعومة بأنها «مصدر إرهاب»، وفي غضون أيام أطلق يد الجيش التركي في عفرين.
وتاريخ الأكراد، مفعم بالثورات والخيبات، وربما يجوز لي القول إنه أضحى كل فعل تُساق فيه الخدعة ويُلجأ فيه إلى التذاكي يعرف في بعض البلاد العربية بـ «الاستكراد»!
فقد أعلن أكراد الشمال السوري منذ نوفمبر 2013 «إدارة ذاتية» في مناطقهم، بزعامة حزب الاتحاد الديموقراطي، وهو حزب ذو صلة وثيقة بحزب العمال الكردستاني الذي يتزعمه عبدالله أوجلان (معتقل في تركيا منذ فبراير ١٩٩٩ ومحكوم بالسجن المؤبد).
بيد أن طموح الأكراد إلى كيان كردي في البلاد التي يوجدون فيها ليس المشكلة الوحيدة.
فقد أضحى الهجوم التركي على مدينة عفرين السورية عنواناً لصراع القوى الكبرى التي يريد كل منها أن تكون له اليد العليا في تشكيل مستقبل سورية بعد التسوية المأمولة، في حين ترى القوى الإقليمية، خصوصاً أن تركيا وإيران تتفقان أن قمع الطموح الكردي ضرورة واجبة، لأنه يسعى إلى إلغاء الحدود التي رسمها اتفاق سايكس-بيكو بُعيد الحرب العالمية الأولى، التي لا تزال صامدة، على رغم الخطوب الجسام التي ضربت المنطقة منذ الغزو العراقي للكويت في 1990.
في الباحة الخلفية لما يحدث اليوم تطل أحداث استعادة حلب من قبل نظام بشار الأسد، وما تلاها من هجمة «أسدية» سورية مدعومة بالطيران الحربي الروسي لاستعادة إدلب (لا تبعد كثيراً من عفرين)، التي تسيطر عليها جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة-القاعدة سابقاً)، واستفتاء كردستان العراق على الاستقلال في سبتمبر 2017، ثم الهجوم الأمريكي في أكتوبر 2017 للقضاء على تنظيم «داعش» في الرقة... وهو الهدف الذي حققه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من خلال التحالف مع «القوات الديموقراطية السورية» التي تسيطر على شمال غربي سورية بشكل فعلي منذ 2013.
كان استفتاء كردستان العراق دليلاً كافياً على رغبة الأكراد في إقامة كيان مستقل، وقد أجريت حواراً صحفياً مطولاً مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني في هذا الشأن في أغسطس 2017.
يبدأ الاستفتاء بالعراق (لو لم تتم عرقلة نتيجته)، وينتقل الكيان الكردي إلى سورية في ظل التفكك الذي تشهده البلاد منذ اندلاع الثورة السورية قبل 7 سنوات، ثم ينتقل لاحقاً إلى كيان كردي في تركيا، وهو ما ظلت أنقرة تخشاه منذ عهد الإمبراطورية العثمانية؛ خصوصاً بعد انتفاضة أرارات الكردية في عام 1930، التي ساندها أكراد سورية، ولاحقاً إلى إيران الذي يبلغ عدد الكرد فيها نحو 5 ملايين نسمة.
ولهذا عارضت تركيا «الأردوغانية»، قيام الولايات المتحدة بتسليح قوات سورية الديموقراطية الكردية للزج بها في أتون معركة الرقة، غير أن القشة التي قصمت ظهر أردوغان تتمثل في إعلان مسؤولين أمريكيين أنهم – بعد إجلاء «داعش» من الرقة- ينوون إنشاء قوة لأمن الحدود، قوامها 30 ألف رجل، لضمان حماية الجيب الكردي السوري، ومع أن الإعلان الأمريكي أثار ردود فعل غاضبة من تركيا، ما حدا بواشنطن إلى التنصل منه، إلا أن تركيا فهمت بشكل مباشر أن تلك القوة ستستهدفها إن عاجلاً أو آجلاً، ولذلك اعتبر أردوغان القوة الحدودية المزعومة بأنها «مصدر إرهاب»، وفي غضون أيام أطلق يد الجيش التركي في عفرين.
حين يتحدث المهتمون بالتاريخ عن أفريقيا في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لا بد أن يذكروا «التكالب الاستعماري على أفريقيا» Scramble. وبما أننا نشهد حالياً تهافتاً على توسيع النفوذ في سورية؛ فهو بحق أغرب ما تمكن تسميته «زواج مصلحة» بين قوى عدة، ما أكثر ما يفرِّق بينها، وعلى رغم وميض النار، فهناك تحالف من نوع ما بين تركيا وروسيا ونظام بشار الأسد والولايات المتحدة بشأن مستقبل سورية والخشية من طموح الكرد.
ولإيضاح من هم اللاعبون الحاليون في سورية، سأتناول ذلك بالتحليل والتفصيل في مقالة قادمة.
نقلا عن "عكاظ"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة