كومونة باريس سقطت ولكنها نجحت بكل المقاييس في آفاق الإنسانية، وظلت مادة يستوحي منها الفنانون إبداعاتهم على مر الأزمنة
في الثامن عشر من مارس/آذار عام 1871، رُفعت راية الثورة الشعبية على قاعة بلدية باريس لتعلن ميلاد "كومونة باريس" أول دولة عمالية في التاريخ، ورغم أنها لم تستمر أكثر من 72 يوما فقط، فإن تأثيراتها ظلت خالدة على مر الزمن. وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 ولدت ثورة تشرين ضد الظلم والطائفية والفساد.
يفصل بين الثورتين 148 عاماً، ولكن الثورة واحدة في جوهرها. لم تكن هاتان الثورتان بمعزل عن الفنانين التشكيليين، ففي كلتيهما هبّ الفنانون إلى رسم جداريات على أوجه البنايات، لتوثيق الثورة التي تطالب بتغيير النظام الجاثم على رقاب الناس، وسرعان ما انتشرت هذه الجداريات من أجل تخليد ذاكرة الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل قيمهم، من أجل عراق موحد لا طائفي.
كومونة باريس سقطت ولكنها نجحت بكل المقاييس في آفاق الإنسانية، وظلت مادة يستوحي منها الفنانون إبداعاتهم على مر الأزمنة، ثورة تشرين ستنتصر بلا شك لأن العالم لم يعد يتحمّل الإرهاب والعنف والتطرف، وهي تستمد قوتها من أفكار الجيل الشاب، وإرث الحياة المستقبلية بلا شك
وكان من الطبيعي أن تنتشر صور هؤلاء الشهداء في ساحة التحرير، معقل الثوار، والنابضة بالأرواح. لقد تجاوز الفنانون الأفكار البالية التي تريد استنساخ التجربة الإيرانية في العراق، فلا يوجد أي فرق بين أديان العراقيين ومذاهبهم وأعراقهم، حتى إن المسيحيين أعلنوا إلغاء الاحتفال باحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد، إجلالاً لشهداء ثورة تشرين. ووجه المتظاهرون تحية لهذا القرار، وقرروا أن تكون شجرة الشهداء تحت نصب الحرية في ساحة التحرير.
من المعروف أن العالم يسير على خطى الرموز الأحرار: جيفارا وغاندي ومانديلا وغيرهم، إلا أن متظاهري ثورة تشرين جعلوا من الشهداء الذين سقطوا في الاحتجاج نبراسا لهم ورسموا صورهم وزينوها باللوحات.
عند الدخول إلى ساحة التحرير وفي نفق شارع السعدون تشاهد لوحات لشهداء رحلوا منذ بداية المظاهرات، وأصبحوا بمثابة الرمز الخالد في غضون شهرين. الشهيد الأول محمد الساعدي، وجدت صوره في ساحات الاحتجاج، والشهيد صفاء السراي، الذي استقرت قنبلة غاز مسيلة للدموع في رأسه، رُسمت صورته على جدران المطعم التركي، والشهيد صفاء السراي نصب الثوار خيمة باسمه وكُتب عليها "ابن ثنوة" في إشارة إلى أمه التي عاشت طريحة الفراش، والتي كان يكن لها حبّاً كبيراً، كما طُبعت قمصان مرسوم عليها صورته، والشهيد حسين الدراجي، قام الفنانون برسم صورته على جدار نفق شارع السعدون، والقنبلة تخترق رأسه وبجواره شعار الأمم المتحدة.
هؤلاء وغيرهم أصبحوا رموز الثورة، حيث يستوحي منهم الفنانون إبداعاتهم. بعض الرسومات تظهر على شكل مخطوطة مطبوعة، تم وضعها في شارع السعدون وطوابق المطعم التركي وساحة التحرير، ولافتات بأسماء شهداء آخرين وأسماؤهم علقت بين جدران ساحة التحرير. كما أن من بين هؤلاء الشهداء الذين استوحى الفنانون لوحاتهم وصورهم، طالبات الطب اللاتي شاركن في المفارز الطبية، أوج العنف والبربرية.
ولدت هذه الفنون مع ثورة تشرين: إصدار ثلاث صحف جديدة، وتأسيس إذاعة ونشرة إلكترونية، وتنظيم معارض رسم مفتوحة، وعروض سينمائية ومسرحيات هادفة، وغيرها من القصائد والأهازيج والأغاني واللوحات.
تستعيد جداريات ولوحات الشهداء التي ولدت بشكل عفوي في نفق ساحة التحرير وتُذكّر بفن الملصق السياسي الذي اشتهر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وسرعان ما تحولت ساحة التحرير إلى مهرجان فني للرسم الحر، تعانق مساحة من الأمل ورؤية المستقبل في عراق تهيمن عليه الطائفية والمحاصصة والفساد.
لقد أعادت ثورة تشرين للفنون والآداب والصحافة هيبتها وتأثيرها في بناء وعي الجمهور، وهم يرون أعمالهم مجسدة من خلال جداريات ملونة، وأضفى الرسامون روحاً جديدة على النفق الذي كان جافاً وعارياً، وتحول من كونه ممراً للسيارات إلى معرض فني كبير يوثّق أسماء الشهداء وصورهم. وهنا تُذرف دموع المارّة عندما يقرأون تلك الجداريات المنحوتة بأحبائهم الذين رحلوا ترويعاً وخطفاً وتهديداً وقتلاً وقنصاً وكل أشكال العنف البربري الذي يليق بالقرون الوسطى.
تلك الحقائق التي حاول البعض طمس معالمها ودفنها مع الشهداء من أجل تغطية جريمتهم النكراء.
تجسد ذلك الجمال بكل الألوان التي استخدمها المتظاهرون برسم أحداث ثورتهم، وكتبوا حكاياتهم وقصصهم بدمائهم، ونقلها الفنانون على لوحات جدارية لعشرات الأمتار. إن فكرة تدوين الذاكرة عمل خلّاق وإبداعي، بالألوان والخطوط، يخلد فكرة الأجيال الشابة التي انشغلت بفكرة البحث عن وطن.
لذلك قد تُمحى الكلمات والخطوط والألوان، ولكن الذاكرة لا يمكن أن تُمحى أبداً لأن هذه الثورة سلمية بكل معنى الكلمة، وجوبهت بوحشية وبربرية لا مثيل لها في التاريخ. وهذا ما حث الفنانين على سكب أرواحهم في هذه الجداريات التي ستبقى خالدة وصافية. وستصبح دليل إدانة للعنف والطائفية والفساد التي مورست بحق هؤلاء الشباب الذين سطعت نجومهم في سماء بغداد، تطالب بوطن بعيد عن إرهاب المليشيات والطائفية.
لذلك لا يمكن قتل هذه الثورة حتى لو قُتل أنصارها. الفنانون المناصرون لإخوتهم الثائرين تركوا فنونهم في الشوارع العارية، ولكل راحل مغدور حكايته مع أهله ومحبيه، وكان رأس كل منهم مليئاً بالآمال العريضة، ولكن القتلة حشوا تلك الرؤوس الخصبة بالقنابل المسيلة للدموع، وغرسوها في محاولة لإجهاض ما يفكر به هؤلاء الشباب.
ساحة التحرير، وبناية المطعم التركي، ونفق السعدون، وغيرها من الأماكن. على أي حال، هذه الأماكن أخرجت الفن العراقي المغروس في الذاكرة التي حاولت سلطات الظلام تغييبها وتهميشها. كومونة باريس سقطت ولكنها نجحت بكل المقاييس في آفاق الإنسانية، وظلت مادة يستوحي منها الفنانون إبداعاتهم على مر الأزمنة، ثورة تشرين ستنتصر بلا شك، لأن العالم لم يعد يتحمّل الإرهاب والعنف والتطرف، وهي تستمد قوتها من أفكار الجيل الشاب، وإرث الحياة المستقبلية بلا شك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة