التطور الأبرز أمس لم يكن خروج آلاف المتظاهرين إلى شوارع البصرة للتنديد بظروف معيشية صعبة أرجعوها إلى التبعية السياسية العراقية.
كانت مدينة البصرة، جنوبي العراق، على موعد مع التاريخ أمس.. فعلى الرغم من أن الحراك الشعبي فيها بدأ قبل عدة أشهر احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات العامة إلا أن أمس الجمعة كان يوما مختلفا في مسيرة هذه المحافظة ذات الأغلبية الشيعية، وفي مسيرة احتجاجاتها التي شهدت تطورات وتحولات غير مسبوقة حملت في طياتها إشارات بالغة الدلالة ورسائل بالغة الأهمية لكافة الأطراف المعنية بما يدور داخل العراق، فمظاهرات أمس كان عنوانها الأبرز أن الانتفاضة الشعبية التي تشهدها المدينة حاليا تجاوزت مرحلة الغضب ذي الدوافع الاقتصادية والمعيشية إلى مرحلة جديدة، عنوانها استعادة الوعي الذي ظل غائبا أو مغيبا لفترة طويلة، والوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إفقار أغنى المدن العراقية والتي تنتج ما يقارب 93% من نفط العراق، وتعد المعبر البحري الوحيد للعراق ومعظم المواد الغذائية والمنتجات الصناعية تأتي عبر ميناء أم القصر، وذلك بعد أن أدرك العراقيون أن مشاكلهم الاقتصادية لا تكمن في قلة الموارد، ولكن في رهن قرار بلادهم السياسي في يد نظام دولة مجاورة تدعي زورا وبهتانا أنها تريد الخير لبلادهم، في حين أنها تريد إفقاره والتهام ثرواته واستخدامه كرأس حربة لمشروعها التوسعي.
إحراق القنصلية الإيرانية في البصرة ومن قبلها إحراق صور الخميني يؤسسان لواقع جديد قيد التشكل في العراق، قوامه أن رفض الهيمنة الإيرانية أصبح مطلبا شعبيا حتى في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، ويسقطان ما حاولت إيران أن تروج له طوال عقود على أنها حامي حمى الشيعة
التطور الأبرز أمس لم يكن خروج آلاف المتظاهرين إلى شوارع البصرة للتنديد بظروف معيشية صعبة أرجعوها إلى التبعية السياسية العراقية لنظام خامنئي، أو في رفع المتظاهرين شعارات مناهضة لإيران أبرزها "إيران برا برا، البصرة حرة حرة"، أو "البصرة بصرتنا والجيش ملتنا"، أو إقدامهم على إحراق مقرات الأحزاب والمليشيات الموالية لنظام "الملالي" في البصرة، كحزب الدعوة ومليشيات "عصائب أهل الحق" و"حزب الله العراقي" ومقر منظمة "بدر" ومقر "المجلس الإسلامي الأعلى" وتدمير كل محتوياتها، لكن التطور الأبرز تمثل إقدام المحتجين الغاضبين على إحراق مقر القنصلية الإيرانية في البصرة، ما دعا طهران إلى دعوة رعاياها لمغادرة المحافظة فورا، بينما نزلت مليشيات موالية لها إلى الشارع وأطلقت نيرانها على المحتجين السلميين.
مشهد المتظاهرين وهم يحرقون القنصلية الإيرانية وينزلون العلم الإيراني من فوقها ويرفعون بدلا منه العلم العراقي يجب التوقف عنده كثيرا لأنه يحمل في طياته إشارات بالغة الدلالة وتحولات عميقة في المشهد العراقي، أبرزها أن العراق بأكلمه بدأ في استعادة هويته الوطنية، وإعلاء الانتماء للدولة على الانتماءات الفرعية المستندة إلى الدين أو المذهب أو العرق، هذا المشهد بكل رمزيته كان استكمالا لمشهد آخر لا يقل أهمية حدث في يوليو الماضي؛ عندما أحرق المتظاهرون صورا ضخمة للمرشد الإيراني الراحل ومؤسس نظام الملالي "الخميني" في الشارع الذي يحمل اسمه وسط مدينة البصرة، وقتها ردد المتظاهرون شعارات من قبيل "احترق الخميني احترق"، و"احترق الحشد احترق"، في إشارة إلى الحشد الشعبي.
إحراق القنصلية الإيرانية في البصرة ومن قبلها إحراق صور الخميني يؤسسان لواقع جديد قيد التشكل في العراق، قوامه أن رفض الهيمنة الإيرانية أصبح مطلبا شعبيا حتى في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، ويسقطان ما حاولت إيران أن تروج له طوال عقود على أنها حامي حمى الشيعة في أي مكان وفي كل زمان، وأنها حائط الصد الذي يحميهم من "الخطر السني" المحدق بهم في بلدانهم إن لم يلجأوا للحضن الإيراني، وأن ولاء الشيعة لإيران مقدم على ولائهم لأوطانهم.
حاولت إيران بعد الإطاحة بالنظام البعثي إبعاد العراق عن انتمائه العربي وتدمير هويته الوطنية فذرعت بذور الفتنة وأذكت نيران النزعات الطائفية والمذهبية، تحقيقا لأحلامها في التوسع والهيمنة، وحاولت أن تثبت أقدامها هناك عبر المدخل العقائدي والمراجع الدينية في النجف، ثم عززت تغلغلها عبر غرس مليشيات موالية لها في النسيج العراقي قدمت نفسها كنسخة عراقية من حزب الله اللبناني، أي كحركات اجتماعية وثقافية وسياسية ذات جناح عسكري يعمل بشكل مستقل عن الدولة، واستغلت تلك المليشيات حالة الصراع والفوضى التي أعقبت سقوط نظام البعث لتوسيع النفوذ الإيراني في العراق، وارتكبت في سبيل ذلك جرائم طائفية فظيعة ساعدت على ظور داعش، كما لعبت دورا كبيرا في الاقتتال الطائفي بين سنة العراق وشيعته في عام 2006، لكن إيران اليوم تقف أمام اختبار حقيقي من أجل الحفاظ على ذلك النفوذ، خصوصا في ظل عزلتها إقليميا ودوليا على خلفية تحركاتها المثيرة لقلق العالم دول المنطقة، ولعل ما حدث في البصرة مؤخرا يؤكد بجلاء على فشل إيران في فرض مشروعها الاستئصالي الاستيطاني في العراق، حتى وسط ما كانت تعتقد أنه "حاضنة شعبية" لهذا المشروع، فها هو العراق يبدأ معركته في استعادة عروبته المسلوبة وبخير طريقة، فأن تأتي بداية النهاية للنفوذ الفارسي في هذا البلد العظيم على يد شيعته فهذا يعني أن تحولات جذرية قد حدثت في وعي أبناء الجنوب، وما حدث في البصرة لن ينتهي عندها بل سيتردد صداه في مدن عراقية أخرى، وما يحدث في العراق سيتجاوز بالتأكيد حدوده لينتقل إلى دول عربية أخرى ستلتقط شعوبها هذه الإشارة لإعلان العصيان على سنوات طويلة من التدخل الإيراني الفج في شؤونها.
يبقى في النهاية أن يتوحد العراقيون سنة وشيعة في معركة استعادة العراق العظيم لعروبته التي بدأت لتوها، ويجب أن يلتقط زعماء السنة في العراق الإشارات المهمة الواردة من الجنوب، كما يجب أيضا على الدول العربية ألا تترك العراق وحيدا في هذه المعركة، فغياب العرب عن الساحة العراقية كان خطيئة كبيرة سهلت من مهمة إيران في بسط نفوذها في العراق وتحويله إلى رأس حربة لسياساتها في المنطقة، وقد آن الأون لمعالجة هذه الخطيئة، خاصة أن إيران لن تستسلم بسهولة، وستبذل كل ما في وسعها للحفاظ على ما تبقى من نفوذها في العراق، لأنها تعلم أن خسارة العراق ستعني خسارة الإقليم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة