الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية أدى إلى إقدام البعض المتنفذ من المليشيات على سرقة المياه من أنبوب البدعة في محافظة ذي قار.
كان العراقيين يتغنون بمدينتهم الجنوبية البصرة في الخمسينيات ويطلقون عليها "فينيسيا الشرق" لكثرة الأنهار والجداول المائية التي تخترقها، جاعلة منها واحة مزدهرة، إضافة إلى ملايين النخيل والميناء، والناظر آنذاك لتلك الوفرة من المياه لم يكن يتصور يوما أن تصبح البصرة عطشى، وفي حاجة إلى إغاثة المحافظات الأخرى بقاني الماء، كما لم يتوقع أحد أن تشتعل فيها حرب المياه وتقدم عشرات من أبنائها الشباب.
بعبارة أخرى، تعيش البصرة أسوأ أوضاعها في التاريخ قاطبة، وهذا ما يثير عدداً لا حصر له من التساؤلات، أولها: هل ستكون الحرب القادمة في العراق "حرب مياه"؟ وهل سيؤدي ذلك إلى نظام مقايضة الماء بالنفط؟ هذا من أسوأ السيناريوهات المحتملة، أي أن يتم مقايضة برميل النفط بقدح من الماء.
باتت البصرة مكباً لنفايات المصانع ومفاعل بوشهر النووي عن طريق الأحواز وشط العرب، ما تسبب في ارتفاع معدلات تلوث المياه وتسمم المواطنين، وسط صمت وإهمال من الحكومة المنتهية ولايتها والمعروفة بولائها المطلق لإيران
ليست أزمة المياه جديدة في البصرة، فقد أصدر أكاديميان من جامعة البصرة بحثا يقع في 420 صفحة شرح فيها أزمة تفاقم مشكلة الماء في هذه المحافظة الجنوبية، لكن الحكومات المتعاقبة لم تصغ إلى نداء مؤلفيها، وكذلك إلى الخبراء والعلماء وعشرات الندوات، وكل ما قامت به هو تقوية الأحزاب الدينية التي فرضت قبضتها الحديدية، بمعاونة المليشيات الايرانية، على هذه المدينة التي تزود العراق بالجزء الأكبر من النفط.
مما لا شك فيه أن الدول المجاورة لها دور في هذه الأزمة خاصة المشروعات التي تقيمها تركيا وسوريا على نهري دجلة والفرات، والتي تسببت في رداءة نوعية المياه القادمة نتيجة تصريف الجداول وما تحمله من كميات كبيرة من الأسمدة والمبيدات، وكذلك سدود إيران التي حولت مجاري عشرات الأنهار والحيلولة دون وصول مياهها للأراضي العراقية والمدن الحدودية، فقد حولت إيران مجرى 43 رافدا من أصل 45 التي كانت تتدفق إلى العراق وتصب في نهر دجلة، وهذا ما عجل من جفاف نهر دجلة في أكبر تدهور بيئي يشهده العراق في مجال ملوحة المياه وتلوث التربة، وباتت البصرة مكباً لنفايات المصانع ومفاعل بوشهر النووي عن طريق الأحواز وشط العرب، ما تسبب في ارتفاع معدلات تلوث المياه وتسمم المواطنين، وسط صمت وإهمال من الحكومة المنتهية ولايتها والمعروفة بولائها المطلق لإيران. وهذه الأوضاع أدت إلى اندلاع التظاهرات والاحتجاجات في البصرة، التي ما زالت تتسع يوماً بعد آخر، وهي تطالب بتحسين الخدمات ومعالجة أزمة المياه وإيقاف تفشي الأمراض والأوبئة.
إن الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية أدى إلى إقدام البعض المتنفذ من المليشيات على سرقة المياه من أنبوب البدعة في محافظة ذي قار، الذي يبلغ طوله 200 كيلومتر، وفي ظل حال الفوضى تم كسر أجزاء من الأنبوب ليقوموا بسحب كميات من المياه لمزارعهم الخاصة وتربية الأسماك وسقي بساتينهم.
وما يفاقم أزمة المياه في البصرة غياب النظرة الاستراتيجية في النظر إلى أزمة بهذا الحجم، إذ لا تزال حلول الحكومة حبراً على ورق، وهي مجرد حلول ترقيعية وليست جذرية، لأن البصرة تعاني أصلاً من افتقار للبنية التحتية في تحلية المياه في ظل الزيادات السكانية المهولة، إضافة إلى انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات للأسباب التي أتينا عليها سابقاً مما أدى إلى تسمم أعداد كبيرة من المواطنين وانتشار الوباء وجفاف الأراضي الزراعية، أمام عجز الحكومة عن مواجهة هذه الأزمة وما بالك بإيجاد الحلول الجذرية لها، ويلح السؤال التالي: هل سوف تتحرك الحكومة العراقية الحالية إلى التفاوض مع إيران وتركيا، سببا الأزمة الرئيسية في تلوث المياه وشحتها في البصرة والعراق عامة؟
لا أتصور ذلك، لأنها ببساطة لا تمتلك أوراق ضغط فاعلة لأنها تابعة في قراراتها، لإيران، بل إن وزير الداخلية الحالي وقع قبل يومين اتفاقية دخول الشرطة الإرانية إلى العراق بحجة حماية "الحجاج" الإيرانيين إلى المراقد الدينية، وهي لا تتوانى من قمع أي تظاهرات أو احتجاجات عراقية من خلال ارتباط الأحزاب الدينية المهيمنة على القرار السياسي، لذا فإن قضية المياه مفتاحها بيد تركيا وإيران، ويجب على العراق إعادة تفعيل القنوات الدبلوماسية للتفاوض معهما، باستخدام كل وسائل الضغط المتاحة لحلحلة الأمور لصالح العراق، خاصة أن إيران وتركيا تواجهان هذه الأيام مصاعب اقتصادية كبيرة، وتراجع اقتصادي حاد نتيجة الضغوط الأمريكية المتواصلة، كما أن تركيا تعاني من تدهور عملتها الوطنية، لذا يمكن للحكومة العراقية الضغط عليها من خلال التبادلات التجارية المتنامية بين البلدين، كل ذلك يعتمد على الحكومة المقبلة وتوجهاتها وارتباطاتها الإيديولوجية والسياسية، وهل ستنتهج طريقاً مستقلاً بعيداً عن التأثيرات الإقليمية والدولية؟ هذا ما سوف تفصح عنه الأيام المقبلة، وتشكيل الكتلة الأكبر، هل ينجح المحور الإيراني أم يتراجع؟
إن أنصاف الحلول لم تعد تجدي بالمقارنة مع حجم المشكلة، من إصابات أكثر من عشرين ألفا في التسمم، وقتل عشرات من الشبان المحتجين، وتداعي البنية التحتية لهذه المحافظة الغنية بالنفط، فلا تنفع حملات الإغاثة ولا صناديق المياه التي تأتيها من المحافظات الأخرى.
ومهما كانت الحلول، تبقى حرب المياه في البصرة بين كماشتي إيران وتركيا مهما كانت الحلول الداخلية، إيران حولت معظم مجاري أنهارها التي تصب في العراق داخل أراضيها، وتركيا بدأت بتشغيل سد إليسو، مما أدى إلى انخفاض مستوى المياه التي تشكل 70% من تجهيزات العراق. مما لا شك فيه، أن أزمة المياه التي يعاني منها العراق، والبصرة بالذات، سببها الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال، والتي لم تهتم بتخزين المياه وبناء السدود على الروافد والأنهار المتوفرة لديها، حتى أن خبيراً أجنبياً سأل ذات يوم: إلى أين تذهب مياه نهري دجلة والفرات والأنهار السبعة في العراق، أجابوه: إلى البحر. فقال: العراقيون مجانين، يبذرون أعظم نعمة وهبهم بها الله، ويرمونها في البحر.. ويتحدثون عن أزمة مياه!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة