الصحافة المجانية أثبتت نجاحها؛ ليس في الأسواق الأوربية فحسب، بل حتى في الأسواق الآسيوية، على عكس الأسواق الأمريكية.
مع انحسار وتقلص الصحف وتحول الكثير منها إلى صحف إلكترونية، تبرز ظاهرة ازدهار الصحف المجانية في الغرب، والتي تصدرها شركات ومؤسسات خاصة، وقد حققت نجاحاً كبيراً في كل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال والدانمرك وسويسرا واليونان وإيطاليا والمجر والتشيك وأيسلندا وسنغافورة، ووصلت أرقام التوزيع فيها إلى الملايين.. عندما ظهرت أول صحيفة مجانية في فرنسا، بعنوان "مترو"، كان الناس لا يعيرون لها اهتماماً كبيراً لأسباب عديدة، منها أولاً أنها مجانية، وثانياً لأنها مختصرة ومكثفة.. وها هي الصحف التقليدية الكبرى تتبع هذا الأسلوب في الوقت الحاضر، والفرنسيون بطبيعتهم يحبون قراءة المقالات الطويلة، والزاخرة بالتفاصيل المملة، ولكن العصر جاء حليفاً لأسلوب الصحف المجانية نتيجة للإيقاع السريع التي تميّزت به حياة المجتمعات المعاصرة.
تمر الصحافة الورقية بأوضاع حرجة في الوقت الحاضر، فقد تحولت كبريات الصحف العالمية الورقية الشهيرة إلى صحف إلكترونية في الغرب لأن عادات القراءة قد تغيرت، وبات الجيل الجديد يقرأ في شاشات اللابتوب والهواتف وليس في الورق
ولعل من أهم أسباب رواج الصحف المجانية سواء في باريس أو لندن أو نيويورك أو العواصم الغربية الأخرى أنها في متناول اليد عند فوهات المترو ونقاط المواصلات والمولات وصالات السينما والأماكن العامة.. عندما صدرت صحيفة "مترو"، بدأ توزيعها في أنفاق المترو أولاً، وكانت المفاجأة لأصحابها والقائمين عليها أن تختفي أكوام الصحف المكدسة خلال ساعات قليلة.. لكن البعض تصور أن هذا النوع من الصحافة لا يمكن أن يصمد كثيراً في وجه الصحف العريقة مثل "الفيغارو" ــ التي توزع أكثر من مليون نسخة في اليوم ــ و"اللوموند" ــ صحيفة النخبة المثقفة ــ و"ليبراسيون" ــ صحيفة اليسار ــ .
أثبتت هذه الصحافة نجاحها ليس في الأسواق الأوربية بل حتى في الأسواق الآسيوية، على عكس الأسواق الأمريكية، التي شهدت ركوداً في هذا المجال، ومردُّ ذلك هو أن الأميركيين لا يستخدمون عادة وسائط النقل العامة حيث المكان المثالي لتوزيع هذه الصحافة. والسؤال المطروح هو:
هل قارئ الصحيفة المجانية هو قارئ الصحف التقليدية المدفوع ثمنها نفسه؟
أثبتت الإحصاءات العديدة التي أجريت في هذا الصدد أن قارئ الصحيفة المجانية آتٍ من الصحافة التقليدية حيث استثمرت وجذبت هذه الشريحة من القراء الجدد، الذين وجدوا ضالتهم المنشودة في الخدمات المجانية التي توفرها هذه الصحف.. كان القراء في بادئ الأمر لا يؤمنون بجدارة الصحف المجانية من وجهة النظر المهنية، وتولدت من ذلك أزمة ثقة بين القارئ والصحافي، لكن هذه الفكرة سرعان ما تبددت عندما حصلت هذه الصحف على إعلانات، تمكنت من خلالها من تمويل هذه الصحف ودفع رواتب الصحافيين العاملين فيها.. وهذا ما عزز مكانتها في الأسواق، على الرغم من أنها لم تحصل على اعتراف جمعيات الصحافة الوطنية إلا بعد مرور سنوات عديدة.
إن الصحافة المجانية أحدثت انقلابا كبيراً في عالم الصحافة، مع تقدم توزيعها الواسع على حساب الصحف التقليدية.. وأكدت هذه الحقيقة مؤسسة "سوفرس" في استطلاع رأي برهن على أن الصحيفتين المجانيتين "فان مينوت" و"مترو" تحتلان مرتبة هامة في سلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة، ووصل قراء صحيفة "فان مينوت" إلى 1.88 مليون قارئ في اليوم، وصلت صحيفة "مترو" إلى 1.33 مليون قارئ، بعد الصحيفة اليومية الرياضية "ليكيب" التي وصل قراؤها إلى 2.4 مليون قارئ أي تقدمت على أشهر صحيفة في فرنسا وهي لوموند التي توزع 1.98 مليون نسخة في اليوم.. وربما هذا ما دفع الصحيفتين الكبيرتين "لوفيجارو" و"لوموند" إلى التفكير بإصدار صحف مجانية، لتكون رافدًا وداعماً لها في تقدم خدمة جيدة، تربط القارئ بالصحيفة الأم غير المجانية، وتثير رغبة القارئ في متابعة القراءة المجانية أيضاً.. وقد أثبتت الصحافة المجانية وجودها من خلال التوزيع والانتشار الواسعين مما عزز مكانتها الصحافية، كما أشارت صحيفة "فان مينوت" في أحد تقاريرها إلى أن غالبية قرائها من الشباب ومن الذين لا يقرأون الصحف التقليدية.. ولعل نجاح هذه الصحف المجانية دفع في حينها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي إلى تحذير الصحافة التقليدية من مواجهة "الموت" إن لم تبحث عن طرق جديدة وفاعلة لمنافسة الصحف المجانية وصحافة الإنترنت، ودعا قطاع الإعلام إلى تغييرات سريعة لإيجاد طرق لمعالجة تراجع مقروئية الصحف التقليدية وتقلص مداخليها.. وباستثناء المجلات النسائية ومجلات المشاهير، تضررت الصحافة المكتوبة مؤخراً من صحافة الإنترنت ومن الصحف المجانية واسعة الانتشار، ولا تزال تؤثر عليها الإضرابات والتسريحات والأزمات المالية بين الحين والآخر.
وفي المحصلة النهائية، إن أهم ما يواجه ازدهار الصحافة التقليدية هو أسلوب وطرق التوزيع والبيع في الأكشاك ونقاط البيع.. وقد أدت هذه الأوضاع إلى إجماع إدارات الصحف التقليدية على ضرورة إعادة تنظيم نظام الطبع والتوزيع الذي تحاول النقابات المهنية الإبقاء عليه، حيث تتحكم الشركات المالية الكبيرة في قطاع الصحافة مثل بويغ ولاغاردير وداسو.
على أية حال، تمر الصحافة الورقية بأوضاع حرجة في الوقت الحاضر، فقد تحولت كبريات الصحف العالمية الورقية الشهيرة إلى صحف إلكترونية في الغرب لأن عادات القراءة قد تغيرت، وبات الجيل الجديد يقرأ في شاشات اللابتوب والهواتف وليس في الورق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة