في سقطة أخلاقية كبيرة استخدم النظام القطري قنواته الرياضية في بث أحقاده وسمومه تجاه السعودية وتصفية الحسابات السياسية معها.
أكدت النسخة الحالية من كأس العالم لكرة القدم ما سبق وأن ذكرناه في المقال السابق من أن الرياضة لم تعد تنفصل بأي حال من الأحوال عن السياسة، فعلى الملاعب الروسية جرت كثير من المباريات السياسية التي تجاوز صداها ملاعب الكرة وسيتجاوز تأثيرها العشب الأخضر.
مباريات ثلاثة تحديدا كانت دلالاتها السياسية أكثر حضورا من مجرياتها الفنية؛ كان آخرها مباراة الأمس بين سويسرا وصربيا، فعلى الرغم من أن سويسرا دولة محايدة سياسيا وليس لديها عداوات أو خلافات تذكر، إلا أن منتخبها القومي لكرة القدم يضم في صفوفه لاعبين اثنين من أصل ألباني، وهما شيردان شاكيري وجرانيت جاكا، والمفارفة هنا أن اللاعبين هما من أحزر هدفي سويسرا في شباك منافستها، فما كان منهما إلا أن احتفلا بإحراز الهدفين بطريقة واحدة، وهي رفع اليدين بعلامة النسر ذو الرأسين، وهو الشعار القومي لألبانيا، وعلى الرغم من أن الاحتفال بهذه الطريقة قد لا يمر مرور الكرام على الفيفا الذي يمنع استخدام شعارات سياسية في المباريات، إلا أن العقوبة المحتملة على اللاعبين لم تمنعهما من استدعاء لحظات دموية في حرب كوسوفو لم تمحها الأيام ولم يعوضهما عنها انتقالهما لدولة أوروبية متقدمة واكتساب جنسيتها واللعب باسمها، ومن هنا كان انتظارهما اللحظة التي يعلنان فيهما عن فخرهما بأصولهما.
مثلت مشاركة المنتخب الإيراني في كأس العالم مناسبة أخرى أظهر فيها الشعب الإيراني توقه للحرية والمساواة وإصراره على انتزاع حقوقه من نظام حكم مستبد عبث بمقدراته وأهدر ثرواته على مغامرات غير محسوبة، وتحول المونديال إلى ساحة أخرى للمواجهة بين الشعب الإيراني ونظام الملالي
فجرانيت جاكا ولد في صربيا لأبوين من كوسوفو وألبانيا قبل أن يرحل إلى سويسرا وهو صغير، ومازال شقيقه الأكبر يلعب باسم منتخب ألبانيا، وقضى والده 3 سنوات ونصف مسجونا في بلجراد لمشاركته في مظاهرات ضد الحكومة، وهي الواقعة التي يقول عنها جاكا "إنها من اللحظات التي أتمنى الانتقام فيها من أجل والدي نتيجة لما فعلوه فيه"، ولا شك أن اللحظة التي انتظرها جاكا تمثلت في الهدف الذي أحرزه في مرمى شباك البلاد التي عاقبت والده قبل 32 عاما.
أما شاكيري فيقول بنفسه إن عائلته الصغيرة غادرت كوسوفو قبل اندلاع الحرب ولم تستطع العودة بعدها، لكن بقية عائلته عانت بشدة، فتم إحراق منزل عمه وتعرض كثير من أفراد الأسرة لانتهاكات عدة
لم يكتف شاكيري في محاولته لتكريم أصوله وقوميته بالاحتفال بهذه الطريقة فقط، لكنه خاض المباراة بحذاء صنع خصيصا لها ويحمل علم كوسوفو في الجهة اليمنى وعلم سويسرا في الجهة اليسرى.
لم يكن حضور السياسة قاصرا على هذه المباراة وحدها، فقد سبقتها مباريات عدة شهدت محاولات عدة لتسييس الرياضة، أو ممارسة السياسة تحت شعار الرياضة، وأتحدث هنا تحديدا عن واقعتين بطلاهما حليفان يشتركان في العديد من الصفات أبرزها رعايتهما للإرهاب وتهديدهما لأمن واستقرار دول الجوار، وأعني "نظام الحمدين" في الدوحة ونظام الملالي في طهران
ففي سقطة أخلاقية كبيرة استخدم النظام القطري قنواته الرياضية في بث أحقاده وسمومه تجاه المملكة العربية السعودية وتصفية الحسابات السياسية معها عقب مباراة منتخبها مع روسيا، فابتعدت القناة الناقلة للمباراة عن كل المعايير المهنية والأخلاقية والإعلامية وأقحمت السياسة في كل تفاصيل المباراة، واستدعت من يسيء للشعب السعودي وقيادته تحت مسمى التحليل الرياضي، ناهيك عن الشماتة الواضحة والتهليل طربا للهزيمة، الأمر الذي دفع الاتحاد السعودي لكرة القدم لتقديم شكوى رسمية للفيفا ضد القنوات القطرية الناقلة للحدث، متهما إياها بـ"استغلال كأس العالم لأغراض سياسية"، مطالبا الفيفا بـ"سحب الحقوق الحصرية الممنوحة للقناة لحماية اللعبة من التشويه الذي طالها"، وهو مطلب منطقي بالنظر إلى ضخامة حدث ينتظره العالم بشغف وبالنظر إلى الأهداف المبتغاة من الأحداث الرياضية عموما وهي تعزيز الروابط بين الشعوب لا بث الفرقة بينها، حتى وإن كانت حكوماتها على خلاف.
الواقعة الأخرى بطلها نظام الملالي، حيث مثلت مشاركة المنتخب الإيراني في كأس العالم مناسبة أخرى أظهر فيها الشعب الإيراني توقه للحرية والمساواة وإصراره على انتزاع حقوقه من نظام حكم مستبد عبث بمقدراته وأهدر ثرواته على مغامرات غير محسوبة، وتحول المونديال إلى ساحة أخرى للمواجهة بين الشعب الإيراني ونظام الملالي، فقبيل انطلاق كأس العالم انتشرت في العاصمة طهران لافتات ضخمة لدعم فريق كرة القدم المشارك في المونديال قامت بتصميمها مؤسسة تابعة للحرس الثوري، لكن ما لبثت هذه اللافتات أن أثارت حفيظة الشعب الإيراني الذي أشعل شبكات التواصل الاجتماعي تنديدا بها، فقد حملت اللافتات المصورة شعار "أمة واحدة.. انتصار واحد"، لكنها جاءت خالية من النساء، ما اعتبره الإيرانيون تمييزا وتهميشا وعنصرية واضحة من قبل نظام الملالي تجاه أحد عناصر المجتمع ونصف سكانه، الاعتراض على هذا السلوك العنصري تجاوز شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحة البرلمان، ما أجبر بلدية طهران في النهاية على إزالة اللفتات.
عنصرية النظام الإيراني كانت دائما محلا لانتقاد المنظمات الحقوقية الدولية، فقبل أيام أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرا موسعا بعنوان "الإيرانيات يشجعن إيران في روسيا، لكن لا يستطعن ذلك في وطنهن" انتقدت فيه بشدة منع الإيرانيات من دخول ملاعب كرة القدم، وأكدت أن إيران هي الدولة الوحيدة من بين الدول المشاركة في كأس العالم التي تحظر على النساء مشاهدة المباريات الرياضية داخل الملاعب، واستشهدت بآراء إيرانيات حاولن التنكر في ملابس رجال لمشاهدة مباريات فريقهم من المدرجات.
لم تكن الباحثة التي كتبت تقرير هيومن رايتس ووتش متفائلة، وحملت الفيفا مسؤولية استخدام نفوذه ودفع إيران في الاتجاه الصحيح، لكنها لم تكن تعلم أن الحل لن يأتي من الفيفا رغم تعهده بتأييد عدم التمييز كمبدأ أساسي في البطولات التي يشرف عليها، الحل جاء من الشعب الإيراني نفسه وفرض عنوة على نظامه، فمع انطلاق كاس العالم استكمل الإيرانيون محاولاتهم لانتزاع مزيد من الحقوق من قبضة قامعيهم، وستبقى مباراة إيران مع إسبانيا قبل أيام خالدة في أذهان الشعب الإيراني، والإيرانيات تحديدا، باعتبارها أول مباراة منذ 37 عاما يسمح فيها للنساء في إيران بدخول الملاعب وتشجيع المنتخب في الساحات العمومية جنبا إلى جنب مع الرجال، وذلك عندما سمح للنساء بدخول ملعب أزادي في العاصمة طهران لمشاهدة المباراة عبر شاشات عملاقة.
الجميل والمبشر في الأمر أن هذا الحق جرى انتزاعه ولم يتم منحه من قبل النظام الإيراني، ففي المباراة الأولى لإيران أمام المغرب تجمع آلاف الإيرانيات والإيرانيين أمام نفس الملعب لمشاهدة المباراة لكن السلطات الأمنية منعت الأمر، فعاد المشجعون والمشجعات في المباراة التالية بأعداد أكثر وبتصميم أكبر على دخول الملعب وحاصروا المعلب ورفضوا العودة لمنازلهم وتظاهروا بأعداد كبيرة جاوزت العشرين ألفا، ما أجبر الشرطة على فتح الأبواب أمامهم قبل 10 دقائق فقط من بدء المباراة، ليكتب الشعب الإيراني صفحة جديدة في نضاله للحصول على حقوقه وحرياته، صفحة عنوانها أن الحراك الجماهيري خلف المطالب العادلة يمكن أن يؤتي أكله، صفحة وإن جاءت من باب الرياضة إلا أن انعكساتها على أبواب السياسية ستكون أقوى وأعمق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة