تُعد الإمارات من الدول الصغرى بالعالم، بمعيارَي الجغرافيا والديمغرافيا، واتجهت الدولة لتعويض ذلك الصغر بجاذبية النموذج الذي تقدمه
تُعد دولة الإمارات من الدول الصغرى في العالم، بمعيارَي الجغرافيا والديمغرافيا، واتجهت الدولة إلى التعويض عن ذلك الصغر بجاذبية النموذج الذي تقدمه؛ إذ إن من أهم تجليات القوة لدولة الإمارات "قوة النموذج" في إقليم يعج بالفوضى والاضطرابات والصراعات الأهلية، وغياب الرؤية والقيادة الرشيدة والتنمية، وغلبة التخلف المعرفي والتطرف الفكري، وانتشار الفقر والبطالة ... إلخ.
وباعتبار أن "القوة الناعمة" –بحسب تعريف المنظّر الاستراتيجي الأمريكي جوزيف ناي– هي «القدرة على التأثير والجذب والإغراء دون إكراه أو دون استخدام القوة كوسيلة للإقناع»، فإن "النموذج" لدولة الإمارات يعد أحد عناصر "القوة الناعمة" للدولة، لذا تُولي الدولةُ أهميةً كبرى لقوة النموذج؛ وهذا ما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في حوار صحفي عام 2015، حين قال: «ما نصنعه في الإمارات هو بناء نموذج ناجح للمنطقة تستطيع أي دولة أو شعب أن يتبناه.. نموذج من داخل المنطقة يصلح للتطبيق في المنطقة بكل تعقيداتها وتداخلاتها».
القصة الملهمة
تُجسد دولة الإمارات قصةَ نجاح وتقدم، وكما قال معالي الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، في الكلمة الرئيسة التي ألقاها في "ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الرابع" الذي نظّمه "مركز الإمارات للسياسات" قبل بضعة أيام، «لقد شكّك كثيرون عام 1971 أن الإمارات السبع ستتمكن من تحقيق النجاح لهذه الدولة التي تشكلت حديثاً، وأن بإمكان دولتنا الصغيرة الصمود»، مضيفاً أنه «بفضل قيادتنا الحكيمة والجهد الجماعي لشعبنا فقد حققت دولة الإمارات الازدهار».
تسعى الدولة إلى عرض قصتها ونموذجها لتكون مُلهمة لدول المنطقة وشعوبها، لذا أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في شهر أبريل 2017 عن تشكيل "مجلس القوة الناعمة لدولة الإمارات" لوضع الاستراتيجيات التي تعمل على تعزيز سمعة الدولة، إقليمياً ودولياً، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، وتكريس مكانتها كقوة اقتصادية وثقافية وإنسانية وحضارية، وترسيخ محبتها وسط جميع شعوب العالم، وإبراز صورتها كدولة منفتحة على الثقافات والحضارات كافة.
الإمارات تسعى إلى تقديم نموذج يحملُ الأمل لشعوب المنطقة والأجيال الجديدة فيها، ويَعدها بالاستقرار والنَّماءِ والتقدم والسعادة، ويقودها إلى الانخراط في حركة العصر والعيش في المستقبل
نموذج القوة الناعمة لدولة الإمارات
ثمة مجموعة من العناصر التي أسهمت معاً في صنع نموذج القوة الناعمة للإمارات، والتي تندرج ضمن ثلاثة محاور رئيسة: سياسي، واقتصادي، وثقافي.. وهذه العناصر كالآتي:
أولاً: النموذج الاتحادي الوحيد الناجح في المنطقة: فدولة الإمارات هي التجربة الاتحادية الوحيدة التي استمرت ونجحت في المنطقة العربية، في حين شهدت تجارب عربية اتحادية عدة إخفاقاً واضحاً.
ثانياً: نموذج اقتصادي ناجح يقوم على الرفاه ويسعى إلى مجابهة التحديات التنموية باستراتيجيات تستعد للمستقبل: حقق الاقتصاد الإماراتي قفزات نوعية في عقود قليلة، فتتميز الدولة بتوفير حياة الرفاه والدخل المرتفع لمواطنيها كافة والمقيمين على أرضها، وتحولت إلى مركز إقليمي للتجارة والتمويل والاستثمار والسياحة، كما تميزت الدولة في تبني مبادرات اقتصادية متقدمة كاستراتيجية التنويع الاقتصادي استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، وتنمية مصادر الطاقة المتجددة، فكانت أول دولة عربية تَبني محطات للطاقة النووية، وأول دولة في الإقليم تنشئ مدينة خالية من انبعاثات الكربون، مدينة مصدر.
ثالثاً: الإدارة الحكومية الرشيدة والذكية: قدمت دولة الإمارات نموذجاً في الإدارة الحكومية غير معهود في المنطقة؛ فهو لا يكتفي بالأداء المرتكز على الكفاءة وتوفير الوقت والجهد وغياب البيروقراطية والروتين، بل إنه يحرص على إدخال أحدث النظم الإدارية والتكنولوجية في المؤسسات الحكومية ومنظومة الخدمات العامة، لذا كانت الإمارات أول دولة في المنطقة تطبّق الحكومة الإلكترونية عام 2000.
رابعاً: التصالح مع العولمة والتحديث: لم تنشأ في الدولة منذ تأسيسها أيُّ مواقف أيديولوجية إزاء المدنية والتقدم والتحديث، وحتى مع بروز العولمة في التسعينيات من القرن العشرين سعت الدولة إلى التصالح معها من خلال الاستفادة من نِعمها والتقليل قدر الإمكان من شُرورها.. ومن الملاحظ أن حركة التقدم والتحديث في الدولة لم تتعطل بسبب التوقف عند ما كان يُثار في المجتمعات العربية بخصوص إشكالية الأصالة والمعاصرة، ولم يقتصر اندماج الدولة في العولمة في الجانب الاقتصادي فقط، بل هي سعت إلى المشاركة في العولمة المعرفية والثقافية، وتمثل "منطقة السعديات الثقافية" وافتتاح "اللوفر أبوظبي" في الآونة الأخيرة دليلاً على هذا المسعى.
خامساً: التحلي بالمسؤولية الإنسانية: لم تحتكر الدولة مغانم ثروتها النفطية داخل حدودها، بل استشعاراً لمبدأ التكافل الإنساني جادَت بجزء من مواردها على الدول والشعوب المحتاجة؛ فأنشأت نحو 38 مؤسسة حكومية وغير حكومية لتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى المجتمعات الفقيرة والدول التي تواجه الكوارث بأنواعها، والتي تُوجت أخيرا بالإعلان عن "مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية"، كما أنشأت صندوق أبوظبي للتنمية الذي يقدم مساعدات وقروضاً تنموية إلى الدول النامية والأقل نمواً في آسيا وأفريقيا، ولا شك في أن "دبلوماسية المنح الإنسانية" تعد من عناصر "القوة الناعمة" للدولة.
سادساً: تكريس التسامح والتعايش والانفتاح الثقافي والفكري: انطلاقاً من الإرث التاريخي للمنطقة والشعب الإماراتي الذي يغلب عليه التسامح والانفتاح على الآخر والتدين المعتدل والوسطي، وهو ما تمثَّل في وجود المذاهب الإسلامية الخمسة على أرض الدولة، استمرت الدولة في رعاية ثقافة التسامح والانفتاح ورفض الانغلاق والتطرف الديني، وبالرغم من وجود نحو 200 جنسية في الدولة، يجسدون ثقافات متعددة، فإن الدولة أتاحت الحرية الثقافية لهذا التنوع الهائل بشرط احترام ثقافة الدولة العربية الإسلامية، وتوجت الدولة هذا التسامح بإصدار عام 2015 "قانون مكافحة التمييز ونبذ الكراهية وازدراء الأديان" الذي يعد الأول من نوعه في المنطقة، والذي لقي إشادة واسعة من الكتّاب والمثقفين والسياسيين في العالم العربي.
سابعاً: لعب دور مهم في محاربة الإرهاب ودعم الإسلام الوسطي: لم تقتصر جهود الدولة على محاربة الإرهاب على الجانب العسكري، بانضمامها إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش" في سوريا، ومساعدة قوات الحكومة الشرعية اليمنية في مواجهة تنظيم "القاعدة" في اليمن، بل سعت إلى مكافحة التطرف إدراكاً منها أن الإرهاب يتغذى على الأفكار المتطرفة، فأسست مركز "هداية" عام 2012، ومركز "صواب" عام 2015؛ لمجابهة التطرف في الساحات الفكرية وساحات الفضاء الإلكتروني، كما أن الدولة دعمت عام 2014 إنشاء "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة"، و"مجلس حكماء المسلمين" الذي انبثق عنه، بهدف تعزيز ثقافة السِّلم والتسامح والتعدد في المجتمعات المسلمة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالجهاد ودور الفتاوى.
ثامناً: القيام بمبادرات ثقافية على المستوى العربي: احتلت الدولة مرتبة الصدارة في تأسيس ورعاية ودعم مبادرات وجوائز ثقافية عربية، إلى درجة أن هذه المبادرات حوّلت الدولة إلى مساهم رئيس في إنتاج الثقافة العربية ونشرها، ومن أهم هذه المبادرات: جائزة الشيخ زايد للكتاب، والجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ومسابقة شاعر المليون، ومسابقة أمير الشعراء، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ومبادرة تحدي القراءة العربي، ومبادرة تحدي الترجمة، ومشروع كلمة للترجمة، ومجلة ماجد، وغيرها.
تاسعاً: تطوير معالم سياحية وعلامات تجارية مرموقة عالمياً: نجحت الدولة في إنشاء وتطوير معالم سياحية أصبحت مقصداً لسكان العالم، مثل برج خليفة، ودبي مول، وبرج العرب، وجزيرة النخلة، وجزيرة صير بني ياس، وجزيرة ياس، وقصر الإمارات، فضلاً عن أن الدولة تملك شركتَي طيران، هما طيران الاتحاد وطيران الإمارات، تُعدان من أفضل شركات الطيران في العالم، وتحوّلتا إلى عَلامتين تجاريتين دالّتين على الإمارات.
تحديات القوة الناعمة المستقبلية
تُدرك القيادة الرشيدة في الدولة أهمية المعرفة والابتكار التكنولوجي لبناء القوة الناعمة في هذا العصر الرقمي، ويعد اقتصاد الدولة أسبق الاقتصادات في المنطقة نحو المعرفة والابتكار، إلا أن الانتقال من استهلاك المعرفة إلى إدارة المعرفة، وصولاً إلى إنتاجها، وتطوير التعليم بحيث يتحول إلى عملية مستمرة ترتكز على الطالب، لا يزال يمثل تحدياً، وما فتئت الدولة تطور استراتيجيات لتحسين نوعية التعليم، ومحاولة بناء نهضة صناعية تتبنى التكنولوجيا المتقدمة، ومن هنا تأتي أهمية مبادرة الحكومة للاستفادة من فرص الثورة الصناعية الرابعة، والتي تمثلت بإنشاء "المجلس الأعلى للثورة الصناعية الرابعة" ضمن خطة "الإمارات 2071" لبناء إمارات المستقبل وتجهيز دولة الإمارات للأجيال القادمة.
وفي هذا الشأن، يتعين على الدولة لتعزيز قوتها الناعمة في المستقبل أن تأخذ في الحسبان المؤشرات والعوامل الآتية:
• كم عدد الجامعات الإماراتية التي تُصنف ضمن قائمة أفضل 500 جامعة في العالم؟ وما مرتبتها ضمن هذا التصنيف؟
• ما ترتيب مدارس الدولة في الامتحانات الدولية التي تقيم قدرات الطلاب في الرياضيات والعلوم، كامتحانَي "بيزا" و"تيمس"؟
• كم عدد براءات الاختراع المسجَّلة دولياً لدولة الإمارات؟
• كم عدد منتجات التكنولوجيا الفائقة التي تُصنّعها الدولة؟
• كم عدد الجوائز التي يحصل عليها الرياضيون الإماراتيون في مسابقات الأولمبياد العالمية والقاريّة؟
• كم عدد الجوائز الثقافية والفنية والعلمية المختلفة، الدولية والإقليمية، التي يحصل عليها المبدعون في دولة الإمارات؟
• كم عدد الكتب التي تُؤلَّف وتُترجم داخل الدولة؟
• كم عدد الأفلام التي تُنتجها الدولة؟ وعدد الأفلام التي تحصل على إحدى الجوائز العالمية المعروفة؟
• ما مدى معرفة شعوب العالم بالمنتجات الثقافية للدولة، كاللبس والطعام والرياضات التقليدية والفنون الشعبية وغيرها؟
• كم عدد جوائز "نوبل" في مختلف فروعها، التي تُسجَّل باسم مخترعين ومبدعين من الدولة؟
• كم عدد الشركات الإماراتية المصنفة ضمن أكبر 500 شركة في العالم؟
هذه بعض المؤشرات الكمية/النوعية التي تقيس القوة الناعمة للدول في العالم المعاصر، وهي المؤشرات التي لا مناص للإمارات من وضعها في استراتيجياتها لتطوير نموذج بناء القوة الناعمة لديها بحيث تكون ضمن تصنيف القوى الناعمة الثلاثين على مستوى العالم، ولتُحقق هدفها بأن تكون من أفضل دول العالم، كما وَعَد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وأخوه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
أخيراً، تدرك الإمارات أن بناء القوة الذي يقوم على العسكرة والأيديولوجيا والهيمنة والأنانية، لا يقدم للمنطقة شيئاً سوى استثارة الصراع والانقسام والاضطراب وإبقائها في حالة التخلف والجهل والفقر والتأخر الحضاري، وهو نموذج القوة الذي تمثله إيران في المنطقة والذي أثبت فشله على مرّ الأعوام، في حين أن الإمارات تسعى إلى تقديم نموذج يحملُ الأمل لشعوب المنطقة والأجيال الجديدة فيها، ويَعدها بالاستقرار والنَّماءِ والتقدم والسعادة، ويقودها إلى الانخراط في حركة العصر والعيش في المستقبل.
رئيسة مركز الإمارات للسياسات
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة