قد يكون من المستحيل حصر الكتابات التي تناولت بالنقد أو التشكيك خطاب الجماعات التي وظّفت الدين الإسلامي لأغراض سياسية سلمية أو عنيفة
قد يكون من المستحيل حصر الكتابات التي تناولت بالنقد والتفكيك، أو النقض والتشكيك خطاب الجماعات التي وظّفت الدين الإسلامي لأغراض سياسية سلمية أو عنيفة، فمنذ نشأة جماعة الإخوان في مصر في العقد الثالث من القرن العشرين، وأقلام الكتّاب لم تتوقف، وأحبارهم لم تجف، وأصواتهم لم تنقطع؛ تنادي في الأجيال المتتالية أن هذه الجماعات لا تخدم الدين الإسلامي بل تستخدمه، وأنها لا تنطلق من فهم مستقيم للدين الإسلامي، وأنها تلوي أعناق النصوص، وتنتقي الحوادث والآثار لتحقيق أهداف سياسية ومصلحية، وأن قياداتها دنيويون علمانيون في حقيقتهم، يلبسون مسوح الرهبان عندما يتعاملون مع العوام، ويعيشون حياة خاصة مغرقة في التمتع بكل ملذات الدنيا، وكأنهم لا يؤمنون بالآخرة، يصرخون ليل نهار في أتباعهم يدعونهم لطلاق الدنيا والتعلّق بالآخرة، وأبناؤهم في رغد العيش يرفلون، وفي أفضل جامعات العالم يتعلمون، هؤلاء القيادات يدفعون أبناء البسطاء للموت في سبيل تمكينهم من السلطة، ووضعهم على كراسي الحكم لبناء مجد شخصي تحت شعار إسلامي.
على الرغم من هذا التناقض الواضح في هذه الجماعات وقياداتها، لماذا لم تؤثر كل الأعمال الفكرية التي تناولت خطاب تلك الجماعات التي توظّف الدين لأغراض سياسية دنيوية في صرف الشباب عنها؟ ولماذا حافظت هذه الجماعات على قدرتها في استقطاب الأجيال المتتابعة، رغم فشلها الظاهر الجلي في تحقيق أي من أهدافها المعلنة؟ لماذا ظلت جماعة مثل جماعة الإخوان محافظة على قدراتها في تجنيد الشباب رغم أنها قاربت من إتمام قرن من الزمان من الفشل والخيبة، والتعثر، والغباء في القرار، والحماقة في التصرف؟ لماذا ظل خطاب الجهاد العبثي أو الجهاد الوظيفي - الذي يخدم مصالح من يموّله - منتشراً وجاذباً حتى لشباب من المجتمعات المتقدمة التي لا تعرف أزمات المجتمعات العربية الفقيرة؟ أسئلة كثيرة ومتعددة لم تعرف الإجابة حتى اليوم.
تحولت تلك الجماعات إلى ما يشبه الفيروسات التي تتغذى على الأدوية المضادة لها، فتحول النقد لهذه الجماعات إلى وسيلة لتغذية إيديولوجياتها، وذريعة لحشد المزيد من الأتباع والأنصار، خصوصاً إذا جاء النقد أو الهجوم من كتّاب يواجهون تلك الجماعات على أرضية خارج إطار الفكر الإسلامي الرصين
الحقيقة أن معظم الإنتاج الفكري الموجه لنقد وتفكيك، ونقض خطاب التطرف السياسي أو الديني العنيف خلال ما يقارب من قرن؛ لم يتعامل مع جذور الأفكار التي تشكّل إيديولوجيات هذه الجماعات، لقد تم نقد الأفكار الفرعية، والتطبيقات والممارسات، والخُلاصات، ولم يتم التعرض للجذور المعرفية (الإبستمولوجية) أو الفكرية لتلك الإيديولوجيات السياسية التي تتخذ من الدين ذريعة ومبرراً ومسوغاً لها. لم يتم التعامل مع الأسس التي انطلقت منها جميع تلك الخطابات التي تنشر الكراهية والتطرف والعنف، ولم يتم تفكيك الأصول الفكرية لها، بل على العكس تحولت تلك الجماعات إلى ما يشبه الفيروسات التي تتغذى على الأدوية المضادة لها، فتحول النقد لهذه الجماعات إلى وسيلة لتغذية إيديولوجياتها، وذريعة لحشد المزيد من الأتباع والأنصار، خصوصاً إذا جاء النقد أو الهجوم من كتّاب يواجهون تلك الجماعات على أرضية خارج إطار الفكر الإسلامي الرصين، فكان نقد اليساريين والليبراليين والقوميين للجماعات الإسلامية خصوصا الإخوان وسيلة لترسيخ إيديولوجية الجماعة، وذريعة لتثبيت أعضائها، وإقناعهم أن من ينتقدونهم معادون للإسلام، كارهون للشريعة، ووصل الأمر أن بعض تلك الجماعات وظّف النقد الموجه لهم في ترسيخ عقيدة تكفير المجتمع وضلاله وخروجه عن الإسلام جملة وتفصيلاً.
ولعل هذا يعود إلى أن كثيراً من الكتّاب الذين تخصصوا في تفكيك إيديولوجيات الجماعات الإسلامية لم يدركوا بنية وطبيعة الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، أو لم يدركوا جيولوجيا الإسلام كدين وهوية وثقافة، لذلك نجد أن معظم المحاولات التي أعلنت أنها تقوم بمواجهة الفكر المتطرف أو الرجعي أو المنغلق، كانت سبباً في انتشار هذا الفكر وتوسعه وتمدده. وهذا يعود في حقيقة الأمر إلى عدم القدرة على فهم جيولوجيا الإسلام كدين يعتنقه الناس وليس كنص سماوي، فالإسلام الدين الذي يتدين به مليار ونصف من البشر يتكون من ثلاث طبقات هي: أولا، الدين السماوي الذي نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ محصورا في القرآن والسنة، وثانيها، الهوية والثقافة الإسلامية التي خلقتها المدارس الفقهية، والنظم والقوانين المستمدة من الشريعة، والأعراف التي توارثها المسلمون في مجتمعاتهم المختلفة، وثالثها، الإيديولوجيا السياسية التي صاغتها وسوقتها الحركات المجتمعية والسياسية التي ظهرت في القرن العشرين، والتي بدأت توظف الإسلام الدين، والإسلام الثقافة في مشروعها السياسي سواء ضد الخصوم والأعداء الخارجيين، أم ضد الدول التي يعيشون فيها، ويطمحون في حكمها.
هذه الوجوه الثلاثة تتعايش معاً وكأنها ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، لا يستطيع الإنسان العادي، أو حتى المتعلم بسيط الفكر أن يدركها، ويحرص المنتسبون إلى الجماعات والأحزاب السياسية التي توظف الإسلام لتحقيق أهدافها على أن يخلطوا بين هذه الطبقات، أو هذه الوجوه لتمرير أيديولوجيتهم السياسية، وتسويقها، وتقديمها على أنها هي الإسلام، وأن ما عاداها خروج عن الإسلام، أو نقصان في التدين، أو أحيانا كفر بواح، وإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وهذا الحال أدى إلى درجه من الإرباك والتشوه في الثقافة الإسلامية المعاصرة؛ التي أصبحت تخلط بين الدين والثقافة والأيديولوجيا؛ خلطا يجعل من الجميع دينا لا يحيد عنه إلا كافر به، وهنا أضفيت قداسة الدين على أفكار البشر، وعلى ممارسات المجتمع، وعلى طموحات السياسيين والانتهازيين، وأصبح على المجتمع المسلم، الذي تنتشر فيه الأمية، أن يتبع هذه الخلطة الفكرية والفقهية والثقافية، وأن يطبقها في حياته، وأن يقدم حياته فداء لها، وجهادا في سبيلها.
وحين لم يدرك كثير ممن تصدوا لهذه الجماعات المتطرفة بالنقد الفوارق بين هذه الطبقات الثلاث، وقعوا في شراك تلك الجماعات وانتهازية قياداتها، فأحيانا يكون النقد لموضوع نقاب النساء مثلاً باعتباره رمزية للتطرف والعنف والتخلف والرجعية، دون أن يدرك الناقد أن النقاب مسألة تتعلق بالثقافة الدينية لمجتمعات معينة لا علاقة لها بالجماعات الإسلامية المتطرفة، هنا يتم توظيف النقد على أنه عداء للإسلام. وأحيانا يتعرض نقد خطاب الجماعات الإسلامية إلى التراث الإسلامي أو رواة الحديث أو مفسري القرآن الكريم من السلف، ظناً من الناقد أنه بذلك يفكك خطاب تلك الجماعات، وهو في الحقيقة يسهم في نشر وتمكين هذا الخطاب لأن نقده سوف يوظف ضده، وسيتم وصمه بالعلمانية أو الكفر في بعض الأحيان.
هذه الحالة من الخلط من الجانبين: ممن ينتقدون خطاب الجماعات الإسلامية، وممن يعتنقونه مضافاً إليها عدم التركيز على الجذور الفكرية والأسس المعرفية للأيديولوجيات الدينية لهذة الجماعات، التي توظف الدين لخدمة أهداف السياسة، أدت إلى عدم نجاعة النقد والتفكيك، وعدم نجاح النقض والتشكيك، لذلك كان ولابد من أن يكون هناك مسار آخر لعله يقود إلى تنوير الأجيال القادمة فلا تقع في شراك هذه الجماعات التي ضيعت أجيالاً، وأهدرت طاقات الأمة، وأضاعات فرص التنمية والتقدم والنهوض الحضاري، وأحرقت خيرة شباب الأوطان على مذابح السياسة قرباناً لتمكين كهنة الجماعات من كرسي الحكم، أو من موقع القيادة داخل الجماعة والتمتع بالمكانة والمزايا والمخصصات، وفي مقابل كل ذلك صارت الدول الإسلامية في حالة حروب داخلية فكرية وثقافية، ثم مادية عسكرية تحرق الحرث والنسل بعد ثورات الربيع العربي المشؤوم الذي تحول إلى شتاء قارص ثم إلى خريف حارق للأخضر واليابس.
وفي هذه المساحة التي خصصتها لـ "بوابة العين الإخبارية" مشكورة سوف أركز على تفكيك الأصول الفكرية والأسس المعرفية لخطاب التطرف الديني والسياسي، الذي أنتج إيديولوجيات سياسية مغلقة أربكت المجتمعات الإسلامية وأفشلت دولها، وساهمت في تكريس التخلف والفقر والجهل والمرض، لأن المجتمعات صارت في حالة حرب أهلية بعضها يحارب البعض الآخر، سواء في صورة عمليات إرهابية دموية تحطم الاقتصاد وتربك حركة المجتمع، أم في صورة مواجهة لتلك الجماعات تكلف خزينة الدولة أموالاً طائلة كان من الممكن أن تُنفَق في تحسين الخدمات وتطوير المجتمعات، ورفع مستوى التعليم والرعاية الصحية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة