في عالم مليء بتحديات رقمية مُركّبة وتحولات تحاصر الإنسان من كل صوب، كان البحث عن حلول تعالج التوتر والقلق والاضطرابات أمرا مهما.
ولأن الفن تأثر منذ عقود بنظريات التحليل النفسي والعقل الباطني لمساعدة الإنسان في أن يكون أفضل، فلم يكن يوما ترفا، بل ضرورة من ضروريات الحياة، ومن هذا المنطلق احتل المسرح، الذي تميز بقِدَم مُمارسته وتشابكه مع فنون عدة كـ"الأدب" و"الديكور" و"الموسيقى" و"الغناء"، مكانة هامة باعتباره مرآة اجتماعية تعكس هموم الأفراد، فاتخذ المسرحيون على عاتقهم نقل رسالته في التأثير والتأثر.
في عام 1920 تبنَّى المعالج النفسي "مورينو" الدراما ومسرحة المشاعر لمساعدة المضطربين نفسيا على تفريغ مشاعرهم وانفعالاتهم من خلال أداء أدوار تمثيلية لها علاقة بالمواقف التي عاشوها، وانطلق "مورينو" من مبدأ تمثيل الواقعة ضمن مجموعة للخلاص من الكبت والغضب والحزن والذكريات المؤلمة.
ابتكر "مورينو" السيكودرما كإحدى الأدوات الفعالة في العلاج النفسي، ويتم استخدامها إما في العلاج الفردي وإما عبر مجموعة داعمة للشخص المريض، وأحيانا يتم تنفيذها كجزء من العلاج الجمْعي، فيقوم الأفراد بتمثيل جماعي درامي يعكس معاناتهم.
وفيما يتصل بعناصر السيكودراما فهي "ثلاثة"، تتمثل في المخرج وهو "المعالج النفسي"، وينبغي أن يكون خبيرا في هذا النوع من العلاج، قادر على ضبط الكثافة الشعورية للمجموعة، وهو المسؤول عن اختيار الممثلين وكتابة السيناريو وتحديد المكان المناسب والتزام توجيه الحاضرين بسرية الجلسة العلاجية المسرحية.
أما العنصر الثاني فيتمثل في "أفراد المجموعة"، ويتراوح عددهم بين العشرة والخمسة عشر شخصا يساعدون البطل في تمثيل مسرحيته، ويكمن العنصر الثالث في "البطل"، وهو المريض الذي تتم مساعدته للخروج من أزمته النفسية وإعادة صياغة أحداث حياته.
بذلك، فإن السيكودراما مزيج من علم النفس والفن، وهي نمط راقٍ من العلاج النفسي المرتكز على الإبداع، يستمد قوته من الخيال، مُستدعيا قدرات الإنسان غير المحدودة لتجسيد مشاعره والتعبير عنها ونسج خيوط معاناته بشكل فني درامي، ما يجعله أكثر استعدادا لإيجاد حلول واقعية تناسب حياته.
تُسهم السيكودراما في اتساع إدراك الشخص وتفعيل ملكاته الفنية وخياله ونقله من ضيق المشكلة إلى سعة الرؤية عبر النظر من زاوية أوسع للمشكلة، كما أن فريق العمل يشكّل بيئة آمنة تسمح للشخص بالانفتاح على عالمه الداخلي، وتمنحه الضوء الأخضر للتعبير عن أسرار هذا العالم، وقد يُفاجأ الشخص بمشاعر وأحداث تتدفق أثناء الجلسة من اللا وعي فيكتشف أسرارا عن نفسه لم يدركها من قبل.
ليس ذلك فحسب، بل إن الدور العلاجي للسيكودراما لا يقف عند حدود التفريغ المشاعري، بل يتجاوز إلى علاج أزمة الفقد واضطرابات ما بعد الصدمة، كما تستخدم في علاج الإدمان والاكتئاب الوجودي والمشكلات الأسرية، التي حدثت في الماضي، فضلا عن تنمية مهارات الأطفال للتعبير عن مشاعرهم وتنظيم أفكارهم.
تُطبَّق الجلسة عبر عكْس الأدوار، حيث يمثل المريض دور الشخص الذي يعتقد أنه الطرف الآخر من المشكلة، كأن يعكس الدور مع والدته أو مديره، حتى يتمكن من رؤية المشكلة من زاوية مختلفة، وهنالك أسلوب آخر هو أسلوب المرآة، الذي يلعب فيه المريض دور المتفرّج ويمثل أحد الحضور دوره، ويُستخدم هذا الأسلوب لزيادة الوعي الذاتي وتطوير مهارات حل المشكلات، وغيرها من أساليب أخرى كثيرة.
وبالتالي تتخذ السيكودراما شكل الكوميديا السوداء للتخفيف من الضغوطات، وإعادة تفعيل الجانب الفكاهي من العقل، ما يسمح بإيجاد حلول مبتكرة خارج الصندوق.
لم يكن متوقعا أن تنتقل المعالجة النفسية اللبنانية والممثلة والمخرجة المسرحية "زينة دكاش" من عالم التمثيل إلى النزلاء في المؤسسات الإصلاحية والعقابية، لتكتب نصوصا وتصوِّر أفلاما مُستلهمة من مسرحياتها، أبطالها ليسوا ممثلين حقيقيين، بل نزلاء، لتصل إلى مرحلة هامة في التغيير الاجتماعي عبر تعديل قوانين وتشريعات ذات صلة بهم.
ولعل ما حفز "زينة" للتوجه نحو هذا النوع من العلاج هو ما لمسته على أرض الواقع من تعديل لقانون تخفيض العقوبات بلبنان للنزلاء الذين يتمتعون بحسن السير والسلوك.
بدأت دكاش في تطبيق جلسات العلاج بالدراما في المؤسسات الإصلاحية والعقابية داخل لبنان سنة 2007، واستمرت لأكثر من 14 عاما، لكنها توقفت لفترة نظرا لظروف جائحة كورونا.
وهنا نتوقف عند تجربة الطبيب السعودي المعروف، راشد الشمراني، الذي أثبت أن العلاج بالمسرح طريقة فعالة علمية مثبتة، فقد نجح هو في علاج كثير من الحالات في المملكة، بالرغم من تعرضه للنقد والاستنكار عندما بدأ استخدام هذا الأسلوب.
ولا يقتصر تأثير المسرح العلاجي على المرضى، بل يمتد إلى الممثل المسرحي، إذا تحدثنا عن المسرح الحقيقي بعيدا عن التجاري القائم على التهريج، فهو علاج حقيقي للأعراض غير الصحية التي تصاحب الممثل، لأن المؤدي هو إنسان كغيره من البشر، يعاني من مشكلات وإحباطات حياتية وقلق، فإذا كان المدرب محترفا في البروفة باستطاعته من خلال تمارين تفريغ الضغط النفسي التخلص من التوتر والحزن، والتماهي مع تفاصيل الشخصية التي يؤديها، ما يُعدل من سلوك الممثل ويقوّمه، كما أن الممثل المسرحي يجد نفسه على الخشبة مُحققا أحلامه وطموحاته من خلال أدائه أدوارا تُنسيه مشكلاته التي يعايشها حاضرًا أو عايشها في ماضيه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة