"إحنا متأخرين سنين ضوئية"، ألم تسمع هذه الجملة مرات ومرات؟
ليست جملة محبطة، وليست مبالغة، وليست مجرد جلد ذات. نحن فعلا متأخرون، وأكاد أجزم أن منا من يتعمد التأخر أو حتى لا يبالي أن نتأخر.
الأمر ليس فقط في الاجتهاد الحالي كي لا تتأخر عن غيرك، بل الأمر تعدى لأن يصبح كيف تتخيل المستقبل دون مبالغات، فيأتي مَن يحقق خيالك ويحيله واقعا.
حين تقرأ بعض روايات الخيال العلمي الأجنبية لا يدهشك فقط الأسلوب أو السرد أو حتى ثقافة الكاتب، بل أيضًا قدرته على توظيف ثقافته في روايته للأحداث المستقبلية ليتوقع أشياء لم تحدث لكنها ستحدث حتما، فيتحول "الخيال" إلى واقع مؤجل.
تخيل الكاتب الروسي إسحق عظيموف مثلا مستقبل البشرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي فوضع قوانينه المعروفة بـ"قوانين الروبوتية الثلاثة"، منعا لانقلاب التقنية على البشر.
تصوّرَ منذ ما يقرب من 100 عام ما قد تصير إليه الأمور إذا تطورت نظم الذكاء الاصطناعي، وأنها قد تنقلب على صانعها.
وفي بعض أعماله تنبأ أيضًا بمستقبل تسير في شوارعه سيارات ذاتية القيادة.. وبعد نحو 80 عاما تعلن شركة فورد عن بدء تصنيع سيارتها ذاتية القيادة وتتعالى الصيحات بين مؤيد ومعارض للفكرة.. لكنها في النهاية حدثت، وأصبحت لدى فورد هذه السيارة، التي تنبأ بها عظيموف منذ عشرات السنين.
ليس ذلك فحسب، بل توقع أيضًا بالتفصيل إمكانيات الهاتف المحمول الذي نمسكه في أيدينا حاليا، شاشة ترى من خلالها مَن تحدثه وتقرأ عليها المستندات وترى صورا وأخبارا… إلخ.
وتنبأ إيان دوجلاس في رواياته بجائحة تقضي على ملايين البشر وتداعيات للتغير المناخي ينهض العالم كله لمواجهتها فلا يستطيع، وبحرب بين قوى عظمى عالمية ينتج عنها تدمير أجزاء كبيرة من الأرض وغرق مدن ساحلية.
يتخيل أجهزة اتصال ونوافذ بيانات وشاشات عرض مدمجة داخل الجسد منذ ما يزيد على الـ15 عاما.. فنجد أن قناة CNBC تنشر على لسان مارتن كوبر، أول مخترع هاتف محمول في العالم، تصريحات يقول فيها إن "الهاتف المحمول سيُدمج داخل جسم الإنسان في المستقبل وسيتولى الجسم شحن الهاتف بطاقته الخاصة".
هل ركب هؤلاء الكُتاب آلة الزمن ليروا ما سيحدث ثم عادوا إلى الوراء ليكتبوا عنه؟ هل أحدهم كان ينجّم أو يقرأ الطالع أو ينظر للمستقبل من بلّورة سحرية؟
لا، هم ببساطة يتعلمون ويقرؤون تاريخهم ويجمعون علوم غيرهم ليتوقعوا مسار الأشياء مستقبلا.. فالعالم يسير على خط زمني يتطور فيه بالقوانين نفسها منذ نشأته.. فإذا درست الخط منذ بدايته، علمت مآله ونهايته.
هنا لا أتحدث عن السؤال الكليشيه: "لماذا لا نكون مثقفين مثلهم ونكتب روايات وأعمالا أدبية تحاكي رواياتهم"؟، لكني أسأل: لماذا لم نترجم أعمالا كهذه إلا متأخرين؟ لماذا نأتي متأخرين دائما بعد أن تقع الفأس في الرأس؟ لم نصبح متأخرين فقط في الابتكار، بل في نقل العلوم ومعرفتها أيضًا.
المعرفة هنا هي بداية الإبداع، فلا يمكنك أن تتخيل ما سيصير واقعا فيما بعد إلا إذا درست قوانين الكون وعرفت تاريخ الأشياء.
إسحاق عظيموف كان عالما في الكيمياء قبل كل شيء، فوظّف علمه في رواياته ومقالاته لتبسيط العلوم كهدف أولي، لا ليجعل الروايات مجرد خيال ووسيلة للتسلية.
وبالتالي، فالنقل هنا ليس عيبا، فقد نقل الغرب عنا علومنا واستخدمها وطوّرها من قبلُ ليصل إلى ما وصل إليه الآن.. والإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يستفيد من تجارب الآخرين.. بل العيب هو ألا نبتكر ولا نطلع ولا ننقل.. نحن نسير على طريق واحد لنصل إلى محطة واحدة ومن يصل متقدما فيستكشف المكان ويكون له فيه موضع قدم أفضل بكثير ممن يصل متأخرا فيأخذ الفتات، وكلاهما أفضل بكثير ممن يسير على غير هدى، فيصل بعد أن يفوت الأوان فلا يأخذ شيئا ويعيش عالة على غيره.
أرى أن لدينا مَن سار على المسار نفسه، فقد استطاع الكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق، رحمه الله، أن يستشرف أحداثا مستقبلية في رواياته، مع اختلاف النوع الأدبي الذي كتب فيه.. استشرف أشياء حدثت وما زالت تحدث في روايته "يوتوبيا"، وتوقع أشياء قد تؤول إليها الأمور في خياله وهو يكتب "في ممر الفئران"، رغم مأساويتها.
الشاهد، أن الأدهى من مشقة الجري وراء محطات الطريق، هو أن تلهث وأنت لا تعرف الطريق من الأساس.. تجري مثلما يجري الآخرون، لا تخطط ولا تريد أن تخطط، ولا تدري معالم الطريق، من أين جئت وأين وجهتك وما الحارات التي ستضحّي بها من أجل التقدم في حارات أخرى، فالطريق متفرع وطويل، وما عمر الإنسان فيه إلا حلقة داخل سلسلة، لا يرى منه إلا ما قدّر الله له أن يرى، والمستقبل لا يخوض غماره إلا المميزون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة