عواطف نعيم لـ"العين الإخبارية": الحروب زحفت على المسرح العراقي
نخلة عراقية سامقة وفنانة رائدة من الطراز الفريد، يتزاحم سجّلها بمئات الأعمال العصية على النسيان.
عانقت الدراما وعشقت السينما وعاشت على خشبة المسرح، مؤلفةً وممثلةً ومخرجةً حتى أمسى صومعتها وعرينها الذي لا ينازعها عليه أحد.
سجّلت ظهورها في سبعينيات القرن الماضي وسرعان ما سكنت قلوب العراقيين، عاشت في زمن الكبار فكان لها نصيب مما اكتسبت من الخبرات والاحتراف والإجادة، فحصدت جوائز عدة وانتزعت الألقاب واحداً تلو الآخر.
كان لـ"العين الإخبارية"، هذا الحوار مع الفنانة والأكاديمية الدكتورة عواطف نعيم، بغية السبر في منجزها الثري وعطائها غير المنقطع.
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. من أين جاءت الغواية والهواية؟
البدايات هي ولع الطفولة في التقليد والمحاكاة والسمر مع الأسرة، هي محاولة لأن أكون بينهم ومعهم مصدر فرح وموضع اهتمام، إذ كانوا يضحكون ويفرحون حين كنت أقلِّد حركاتهم وطريقة مشيهم وكلامهم.
وحين ولجت بوابة المدرسة الابتدائية حرصت على المشاركة في كل الأنشطة والفعاليات التي تقدّم من رقص وغناء وأناشيد، واعتدت مواجهة المتفرجين منذ كان والدي يأخذني معه بعد أن يلبسني خالاتي بدلة العروس ويجلسنني في مقدمة السيارة مزيّنة أول كل مايو/أيار في عيد العمال، حيث يحتفل عمال العالم بيومهم.
كانت السيارة المزيّنة بالزهور والورق الملون والأعلام تدور بي في الشوارع حيث الرقص والغناء واللافتات المخطوطة والهتافات، لذا كانت طفولتي جميلة وميولي فيها واضحة في أن أكون مختلفة عن بنات جيلي.
في ما بعد وتحديداً عند الدراسة المتوسطة ازداد ولعي بفن المحاكاة وساعدني في ذلك مكتبة المدرسة الغنية، التي كُلِّفت بالإشراف عليها، والتي سُلِّم إليّ مفتاحها، إذ من خلالها تفتحت عيناي على الأدب الإنساني ولا سيما الأدب الروسي حيث تشيخوف وجوجول وتولوستوي ودستويفسكي.
ماذا عن مرحلة الثانوية؟
مرحلة الثانوية كانت هي الأخرى إضافة لمواجهة جميلة ومهمة هي فن الخطابة كتابة وقراءة وهي المرحلة التي قدت فيها فريقاً في التمثيل والإخراج من صديقات الدراسة، حيث كنت أقوم بتأليف التمثيليات وإخراجها وتقديمها إلى جمهور المدرسات والطالبات، لذا كان لي في تلك المراحل حضور وتأثير ومريدين، لم أكن وحدي بل كنت محاطة بمدرسات متفتحات نيّرات العقل زرعن في روحي الثقة والجمال وتوق المبادرة الشجاعة.
لذا كان الفن حلم طفولة وولع براءة لم أتخلَ عنه ولم أرض عنه بديلا وغذيّته بالقراءة والتعلّم والوعي والمعرفة العلمية والوطنية.
من الصعب الخوض في تفصيلات أعمالكم الفنيّة لكثرتها وتنوعها، باعتقادكم هل سيكتب لهذه الأعمال الخلود في ذاكرة المتلقي العراقي؟
برأيي أن كل الأعمال التي تمس هموم الناس وتخاطب إنسانيتهم تبقى في ذاكرتهم، لكني أجزم أن سهرة "بلابل" لمؤلفها الأستاذ فاروق محمد ولمخرجها الراحل دحسن الجنابي من الأعمال التي ستبقى خالدة في العقل الجمعي العراقي، كما هو الحال مع مسلسل "عنفوان الأشياء" للمخرج الفنان حسن حسني والكاتب صباح عطوان، وكذلك مسلسل "الجرح" للمؤلف السوداني الأستاذ أحمد قباني والمخرج الفنان عماد عبدالهادي من الأعمال الدرامية التي لا يمكن أن تُنسى وتغادر الوجدان لما شكّلته من حضور وما أحدثته من تأثير في المشهد الفني المتجدد.
تعاونتم مع أسماء كبيرة.. ماذا ترك ذلك الأثر في مسيرتكم الفنية؟
كنت محظوظة بفضل الله حيث عملت مع الكبار وجايلتهم واستمعت إليهم وتعلّمت منهم، كانوا كباراً ومؤسسات ليس في الفن والثقافة فقط بل في الروح الوطنية والوعي الإنساني، إبراهيم جلال، جعفر السعدي، يوسف العاني وخليل شوقي والكبيرة السيدة زينب والأستاذ سامي عبدالحميد وقاسم محمد ومحسن العزاوي وفوزية عارف ومي شوقي وسليمه خضير وفاطمة الربيعي وسهام السبتي وغزوة الخالدي وسعدية الزيدي.
كان لي شرف الوقوف مع كبار الممثلين في الإذاعة والتلفزيون، طعمة التميمي وشكري العقيدي وكريم عواد وحسن حسني ودحسن الجنابي وحسين التكريتي وعمانوءيل رسام وفاروق محمد وكارلو هايكون وصاحب حداد وعبد الهادي مبارك وهادي الراوي.
وتتلمذت على خبرة أساتذة كبار، الدكتور عوني كرومي والدكتور صلاح القصب والدكتور فاضل خليل والدكتور عقيل مهدي والدكتور عبدالاله كمال الدين والدكتور مرسل الزيدي والأستاذ بهنام ميخائيل والأستاذ عزيز خيون.
كل هؤلاء الكبار كان لي شرف الوقوف معهم والعمل على تفعيل حركة الثقافة والفنون في المسرح والحياة إلى جوارهم، كانوا كباراً وكان الزمن بهم بهياً وعامراً.
كيف تجدين الفن وأحواله اليوم؟
الفرق ما بين الأمس واليوم لا يكمن في طبيعة العمل الفني والتلقي بل يكمن في مفهوم الاهتمام بالفن والثقافة بشكل خاص.
بالأمس كانت الفنون والثقافة هي العنوان الأبرز في حضارة الوطن، واليوم تغلبت السياسة وويلات الاحتلال والاحتراب فغطت على وهج الثقافة والفنون وحضورهما وضرورة هذا الحضور.
هناك تهميش متعمد لهذا الجانب الإنساني الخلّاق، ولعل بعض التوجهات التي تلبس ثياب الدين والتدين وهي بعيدة عنه إحدى العوامل المؤثرة في تأخير الاهتمام بحضارة الوطن من خلال الإهمال وعدم الاكتراث بتوفير الدعم والرعاية.
هناك إهمال واضح وممنهج لكل ما يمت إلى الفنون والثقافة بصلة ابتداءً من الفنان ذاته وصولاً إلى منجزه.
الآن الفنان والمثقف يسعى لإدامة المنجز وتفعيل الحراك بمفرده وبجهوده بعيداً عن المؤسسة المعنية بالأمر.
ماذا يعني الفن في فلسفة عواطف نعيم؟
الفن هو تراث الأمم ورمز حضارتها ونتاج العقول المفكرة والباحثة والمغامرة لمحاكاة الطبيعة وما خفي في طياتها من أسرار، إذ إن الفن إحدى الوسائل والسبل لتجميل الحياة وترقيق المشاعر وتحبيب الجمال.
كل الفنون على اختلاف مصادرها وتوجهاتها وأساليبها ما هي إلا تعريف بما كانت عليه تلك المجتمعات في فترات التاريخ المختلفة وما كان عليه إنسانها المفكر والخلّاق.
يقال إن نعيم ولدت من أجل الخشبة.. لما كل هذا العشق إلى المسرح؟
المسرح ملعبي ومملكتي التي لا ينافسني فيها أحد فأنا عاشقة حد الصبابة له ومهووسة بعوالمه لذا أجد نفسي في كل ما يشّد ارتباطي به مكانة وحضوراً في التمثيل والكتابة والإخراج والنقد الموضوعي.
ليس هناك مفاضلة ما بين هذه الروافد بل هناك اجتهاد وبحث ومغامرة تقربني من هموم شعبي وما يمور في صدور الكادحين من أبناء هذا الوطن لأني أؤمن بأن الفنان ضمير ناسه وصوت مجتمعه وعليه أن ينحت اسمه بينهم ومن خلال حكاياهم وتطلعاتهم، لذا ولجت كل هذه الروافد وغرفت منها كي أكون معهم وأنتمي إليهم من خلال فن المسرح وروح الدراما وهو ليس حديث شعارات بل هو فعل وممارسة نبيلة التزمت بها منذ وعيت أن المسرح مدرسة للتعلم والمعرفة والمتعة.
ماذا يعني المسرح للشعوب؟
المسرح جامعة ليلية للتنوير والتعلم والمتعة والمسرح العراقي نشأ ونضج في أحضان المدّ الوطني والحراك الثوري وكان منبراً للتعاطي مع قيم الحياة والمواطنة النبيلة لذا كان جمهوره من مختلف التوجهات والطبقات الاجتماعية من النخبة حتى الكادحين عمالاً وفلاحين وكسبة.
نعم المسرح العراقي ناور وراوغ خلال فترة مسيرته ومنذ تاريخ تأسيسه ليكون معبراً عن ضمير الشعب والمتمثل لطروحاته وأفكاره، نجح في خلق قاعدة جماهيرية واعية ومتنورة ثابتة وراسخة تناقش وتحاجج وتتمرد.
أين الجمهور الآن من المسرح؟
جمهور المسرح موجود وما زال يتابع ويحضر العروض التي تحترم ذوقه ووجوده، والمسرح ألوان والاختيار وليد الوعي، فهناك من يختار مسرحاً يضحك فيه ويستمتع خلال لحظات العرض وآخر يختار ليس ما يضحك فقط بل ما يعلم ويفيد ويمتع.
للوعي دور كبير في قيمة الاختيار وفي العالم أجمع هناك مسارح للترفيه والتسفيه وهناك مسارح للتثقيف والمتعة وإلا لماذا كانت مسارح بردواي وخارجها وخارج خارجها موجودة وعاملة على مدار المواسم؟.
مَن كان مقصراً أمام الآخر.. المسرح الجاد أم الجمهور؟
ليس من تقصير لدى أي واحد من هؤلاء، التقصير لدى المؤسسات المسؤولة عن توفير الدعم الإنتاجي واللوجستي لأصحاب المنجز من فنانين وكتاب ومخرجين وتقنيين والترويج والدعاية وتوفير مسارح تليق بجمهور المسرح ومريديه.
التقصير لدى أصحاب القرار ومالكي زمام الأمور والماسكين بمفاتيح الصرف والدعم.
لو ثنيت الوسادة إلى المسرح ماذا يمكن أن يتغير؟
الوسادة موجودة ونحن مَن يقوم بثنيها وتقديم عروض مسرحية تليق بأصحاب الفكر ورافعي منبر الديمقراطية حتى لو تطلب الأمر أن تقدم تلك العروض في المقاهي والشوارع، لكني على يقين أن المسرح حي ومتجدد وقادر من خلال المبدعين العنيدين أن يتواجد ويحاور الأمكنة والفضاءات، كون أن المبدع المبتكر قادر على الإصلاح والتغيير وتقديم الثورة والتمرد، إذ إن المسرح ومنذ تأسيسه كان منبراً حراً للديمقراطية.
aXA6IDMuMTQ1LjU4LjE1OCA= جزيرة ام اند امز