إسبانيا لها مذاق خاص يستشعره كل من طاف في مدنها الأندلسية العريقة التي ما زالت أسماؤها العربية باقية وشاهدة على ماضي العرب التليد
زيارة إسبانيا لها مذاق خاص وجميل يستشعره كل من طاف وجال في بعض مدنها الأندلسية العريقة التي ما زالت أسماؤها العربية العريقة باقية وشاهدة على ماضي العرب التليد، ويزداد الأمر عجباً عندما يشاهد الزائر لهذه المدن الأندلسية ما يرى من حجم الآثار العربية التي تعتمد عليها مملكة إسبانيا في زيادة دخلها السنوي من خلال زيارة مناطقها السياحية العريقة والتي تصل فيها أعداد السياح من الداخل والخارج إلى أرقام كبيرة تنافس بها معدلات السياحة العالمية.
هل من المصادفة العجيبة أن تستمر هذه العبارة تقرأها الأجيال المتعاقبة بمعانيها ودلالاتها، ويقرأها كل زائر وسائح لهذه المدن السياحية العريقة من ماضي العرب والمسلمين، رغم علمنا أن من كتبها لم يكن يعلم ما سيحدث في المستقبل
ومن هذه الآثار الباقية "قصر الحمراء" بمدينة غرناطة الذي يعد شاهداً حياً على عراقة وأصالة الأثر الإيجابي للعرب وفن العمارة فيها، فدقة التصميم وبراعته وروعته تجعل الإنسان في حالة من الذهول والإعجاب تجبر الزائر لهذه الآثار عبر التاريخ ليرى كيف استطاع هؤلاء العرب الذين جاءوا من عمق الصحراء والبداوة أن يصنعوا هذه الحضارة العريقة التي لم تشيد فقط مجرد المدن والمباني والنوافير والساعات والأجهزة، بل أسست علوماً ومعرفة كان لها دورها المميز في "نهضة الغرب" وبناء مجده العلمي والتكنولوجي.
ونعتقد أن من أبرز العلوم التي برع فيها العرب هو فن العمارة والبناء، ولعلّ من زار قصر الحمراء في غرناطة يرى ذلك شاهدا حيّا أمام ناظريه، من حيث الروعة في البناء الهندسي والتنسيق والأخوات الجدارية المزركشة والرخاميات ومجرى الماء في جنبات القصر، وقد يكون الشاعر العربي الراحل نزار قباني أكثر من أبدع في الوصف التصويري الرائع لآثار العرب في الأندلس من خلال قصيدته المشهورة "في مدخل الحمراء ".
ورغم هذه العظمة والهيبة المدهشة للمكان وآثاره فإن هناك عبارة رأيتها منقوشة تقريباً على معظم جدران قصر الحمراء، استوقفتني واستمهلتني حيث كثرت بشكل جعلها تحفر في ذهني وتستقر في وجداني، فبحثت عن دلالتها وما قيمتها وسر تكرارها.
وبعد السؤال والقراءة وجدتُ أن فريقاً بحثياً إسبانياً قام برصد وجمع العبارات والمقولات المنقوشة في قصر الحمراء فوجدوا أن عبارة "لا غالب إلا الله" أكثرها انتشاراً وتحتل مواقع متميزة في جدرانه، بل وفي كل زاوية من زوايا القصر.
وبالرجوع إلى بعض كتب التاريخ لتفهم أسباب تكرار هذه العبارة "لا غالب إلا الله" نجد أن هناك تفسيرين لذلك.
التفسير الأول: أن غرناطة استمرت بعد سقوط قرطبة عاصمة الدولة الإسبانية قرابة القرنين ونصف من الزمان وأن "قصر الحمراء" كان المركز الرئيسي الذي يتم فيه استقبال الوفود والسفراء، فأراد أهلها أن يتمسكوا بآخر ما يمكن أن يتمسكوا به بعد أن سقطت كل قواهم أمام القوى الإسبانية التي أحاطت بهم من كل جانب، وأن يجعلوا هذا الشعار راسخاً في نفوسهم وماثلًا في أعينهم آملين في نصر الله تعالى، بمعنى آخر أن تشكل هذه العبارة دعمًا تحفيزيا دائما لأهل الأندلس وتذكيرهم بأنه "لا غالب إلا الله".
أما التفسير الثاني، فهو أشد غرابة ويدل على مدى الحالة الانهزامية التي وصل إليه أهل الأندلس بعد وقوعهم في أخطاء فادحة، لعل أبرزها هو معاونة ملوك وأمراء الأندلس المسلمين أعداءهم من ملوك إسبانيا في إسقاط الدول الإسبانية واحدة تلو الأخرى، ويؤكد بعض المؤرخين أن سبب كتابة هذه عبارة «لا غالب إلا الله»، أن أحد حكام غرناطة عاون ملك قشتالة الإسباني في إسقاط مدينة إشبيلية مقابل ألا يدفع الجزية إلا إلى ذلك الملك الإسباني، وعند عودته استقبله أهل مدينته فرحين مهللين بهذا الانتصار الذي حققه بعدم دفعه الجزية، واصفين هذا الأمير بـ«الغالب»، لكن الرجل أدرك أن هذا الانتصار هو بداية الهزيمة، لذلك رد عليهم بهذه العبارة بـ«لا غالب إلا الله» التي حفرها ونقشها في كل زاوية من قصر الحمراء، ليعلم نفسه وغيره درساً في غاية الأهمية، بأن النصر والهزيمة من عند الله تعالى، وأن من ينصر الله ينصره، ولكن من جاء بعده لم يتعلم الدرس، وترك الأمر والاستعداد والتهيؤ واستسلم لواقعه، حتى سقطت غرناطة، وسقطت معها دولة العرب والمسلمين هناك، وبكى آخر الملوك المسلمين، فقالت له أمه: «ابكِ مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال».
والسؤال الذي ما زال يحيرني هل من المصادفة العجيبة أن تستمر هذه العبارة تقرأها الأجيال المتعاقبة بمعانيها ودلالاتها، ويقرأها كل زائر وسائح لهذه المدن السياحية العريقة من ماضي العرب والمسلمين، رغم علمنا أن من كتبها لم يكن يعلم ما سيحدث في المستقبل ولا أن هذه العبارة ستبقى ما بقي الدهر.
لا شك أن هذا التراث العربي العظيم يحمل في طياته جوانب العظمة والانبهار، ولكنه يحمل في الوقت نفسه أسباب ضعفه وانهياره، والواجب علينا أن نتعلم من تاريخنا ما نستفيد منه في مستقبل أيامنا.
ويستحضرني قول الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
انتهت كلمات الكلمات ولم تنتهِ همومه فيما هو حاضر العرب، وفيما هو قادم من مستقبل العرب.
ولعلنا جميعاً عربًا شرقًا وغربًا بحاجة لاستلهام معاني عبارة "لا غالب إلا الله" وأنها لم تكتب مصادفة بل هي قد كُتبت بعلم الله وأمره، وأعتقد أننا بحاجة ملحة إلى هذه العبارة حتى تُشكل لنا دعما معنويا وحافزاً؛ لاستنهاض حال العرب وأن ما يجري من تشرد وتشتت في حال العرب يمكن استدراكه والنهوض من جديد والعودة بقوة الى حالة التوازن الطبيعي للأمم والعطاء الإيجابي في الحياة الإنسانية من جديد، ولعل أولى خطوات ذلك هو التلاحم الوجداني والعاطفي بين العرب.
وبقراءة متأنية لواقع العرب في هذا الزمان نجد أن حالة سقوط غرناطة تتكرر أمام أعيننا بكل تفاصيلها وأحداثها سواء من خلال تكالب الأعداء علينا أو من خلال خيانات العرب لبعضهم البعض والفرح الوهمي لانتصارات مزعومة وخداع أنفسنا وغيرنا.
والسؤال المهم.. أي عبارة سنتركها لمن يأتي بعدنا حتى يتعظ من الأخطاء التي وقعنا فيها ونمارسها نحن العرب أنظمة وشعوبًا في هذا الزمان.
الذي أعتقده أن طريق الانتصار على أنفسنا وأعدائنا قد يكون من خلال إعادة نشر مفهوم "لا غالب إلا الله" في كل محفل وفي كل مكان وأن نردده في أنفسنا وعقولنا قبل حناجرنا وأن تُكتب هذه العبارة في بلدٍ بلدٍ، وفي مدينةٍ مدينةٍ، وفي شارعٍ شارعٍ، وفي زنقةٍ زنقةٍ وفي كل مكان على امتداد وطننا العربي الكبير ولعلها تعيد فينا شيئاً من الحماسة الذاتية لاستعادة مجدنا العربي المسروق.
نسأل الله عز وجل أن يوحد صفوف العرب ويلم شملهم ويبعد البغض والشحناء من صدورهم ويؤمنوا إيمانا يقينياً لا شك فيه بأنه "لا غالب إلا الله" حتى ولو تكالب علينا الأعداء من كل حدب وصوب.
حفظ الله بلاد العرب وشعوبها من كل مكروه ومن كل شر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة