مع انتشار النزعة الوظيفية للعلم والثقافة فقد صار الإنتاج العلمي في الغالب الأعم من دراسات الماجستير والدكتوراه ومن الأبحاث.
بمقدار نضج المجتمعات ورقيها يكون مستوى الأفكار والمفكرين فيها، وذلك لأن الفكر هو وليد طبيعي لثقافة المجتمع، ونتاج تلقائي لوعي العاقلين من أفراده، وعليه وبه تصنع المجتمعات مستقبلها. الفكر لا يمكن اصطناعه ولا تصّْنعه، لأنه نوع من الملكة، أو الموهبة التي تقدح في عقول معينة؛ تأهلت بكثرة الدراسة والقراءة والتأمل، وأطلقت طاقاتها، ووظفت قدراتها في التفكيك والتركية. ويقول أهل اللغة إن الفكر قد يكون من الفرك، وهو أن تفرك المعاني، وتحللها إلى أدق مضامينها، وأن تفرك المعاني بعضها في بعض فتولد معانٍ جديدة.
عرفت المجتمعات العربية في مراحل سابقة - قبل ظهور الفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي - النمط الطبيعي لولادة المفكرين وخروجهم من رحم عزلتهم وكهوف إبداعهم، إلى الوعي الجمعي العام للمجتمع؛ من خلال ما يقدمونه من أفكار ورؤى وأطروحات جديدة مبدعة، تثير الدهشة والاهتمام، وتدفع القراء إلى متابعتهم، والبحث عن إنتاجهم. وكان إنتاجهم يظهر في صورة واحدة وحيدة؛ هي الكتب، أو الدراسات، أو المقالات العميقة في المجلات الثقافية الرصينة، وكان القراء والمهتمون يتناقشون حول أفكارهم، ويتجادلون ويتصارعون وينحازون أو يعادون. وفي كل الأحوال كانت نتيجة هذه العملية خلق حالة من الشغف بما ينتجون من أفكار تدفع المهتمين إلى تجشم عناء الدوران في الشوارع على المكتبات وأسواق الكتب القديمة بحثا عن كتاب للواحد منهم.
وهذه العملية تكاد تكون نمطاً عاماً في العالم، وإن كانت بعض المجتمعات تسلك صناعة الأفكار فيها سبلاً مشابهة، وكنها أكثر تعقيدا وتشابكا، وتعددا في الوسائل. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تخرج الفكرة في مرحلتها الجنينية في صورة مقال صحفي، فإذا كانت جديرة بالاهتمام، تداولتها البرامج الحوارية في الإذاعات والتلفزيونات، فإن ثبت أنها تمثل قضية تستحق المتابعة تكتب حولها أبحاث وكتب، فإن تكون حولها إجماع أنها تمثل فكرة مركزية في ثقافة المجتمع تدخل هذه الفكرة في مناهج التعليم العام، فإذا رأت الطبقة الثقافية أنها فكرة حضارية مهمة تتحول إلى فيلم سينمائي، فإن استقر الرأي على أنها من أركان الحضارة وأعمدتها يحوز الفيلم على أوسكار.
وإذا عدنا إلى الواقع العربي الذي نعيشه اليوم في عصر الفضاءات المفتوحة؛ من خلال الفضائيات، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي فسوف نجد واقعا مغايراً تماما، لا ينتمي إلى ما كان عليه الحال في العالم العربي قبل هذه المرحلة، ولا ينتمي إلى أية تجارب إنسانية أخرى في أي بقعة من بقاع الأرض. فقد اتسعت المسافة بين المفكر والأفكار، ولم يعد شرطاً أن يكون من يمنح صفة المفكر منتجاً للأفكار، أو حتى مسوقا جيداً للأفكار، وإنما صارت صفة المفكر لقباً جميلاً يرغب الكثيرون في أن يسبق أسماءهم بعد لقب الدكتور أو الأستاذ أو الشيخ.... الخ. فقد صار "المفكر" لقباً وليس صفة لموصوف بها. وثقافتنا العربية كريمة في منح الألقاب لمن لا علاقة لهم بها، فقد درجت هذه الثقافة أن تطلق على الأعمى لقب بصير، وعلى الأعور لقب كريم عين.
ومع انتشار النزعة الوظيفية للعلم والثقافة فقد صار الإنتاج العلمي في الغالب الأعم من دراسات الماجستير والدكتوراه، ومن الأبحاث موجها بصورة أساسية لتحقيق أهداف وظيفية بيروقراطية؛ تتعلق بتحصيل الرزق والترقية في العمل، أو حيازة مكانة اجتماعية، أو مزيد من الديكور والزينة لإشباع الرغبات الذاتية المتضخمة، وصار الإنتاج الثقافي السيال من الكثيرين وسيلة لكسب العيش، وتحصيل الرزق من خلال عوائد البيع، أو حظوظ الجوائز، ولم يعد إنتاج الأفكار هدفا ولا غاية في ذاته.
لذلك صارت صفة الفكر يتم تصنيعها بطرق مبتكرة وجديدة وغير مسبوقة في التقاليد الثقافية العربية، حيث نجد الكثيرين ممن يجيدون الكتابة والقراءة يعرفون أنفسهم على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بصفة المفكر، وأحيانا المفكر الإسلامي أو المفكر القومي، وهو نوع من تمجيد الذات وتعظيمها، وينقل عنهم من يقرأ لهم مضيفا إلى أسمائهم صفة المفكر.
أما الجهة التي صارت تحتكر صناعة المفكرين في العالم العربي اليوم فهي الفضائيات، خصوصاً الموجهة منها من حكومات مثل الجزيرة وأخواتها، أو التجارية منها مثل فضائيات رجال الأعمال. في هذه الفضائيات يحتكر صناعة المفكرين مجموعة من المعدين للبرامج، وهم في الغالب شباب غاية تحصيلهم العلمي المرحلة الجامعية الأولى، ولكنهم يتحكمون في اختيار الضيوف الذين يريدون، ويضيفون لهم الصفات والألقاب التي يحبون، أو التي يطلبها الضيف، ومع تكرار ظهور الضيف يستقر في الوعي الجمعي أنه مفكر، وأحيانا يكون مفكراً كبيراً.
تكمن خطورة هذه الحالة حين تتعلق بالإسلام، وإطلاق صفة المفكر الإسلامي على من لا يستطيع أن يصيغ فكرة واحدة، وإنما يسوق أفكاراً ميتة من فترات تاريخية سابقة، أو يعيد تغليف أفكار مميتة من فترات تاريخية مظلمة. في كلتا الحالتين تتحول صفة مفكر إلى نوع من التدليس والغش لتسويق بضاعة تالفة أو فاسدة، تحدث تدميراً غير محدود في العقول والقلوب خصوصا عند الأجيال الجديدة، وما داعش وجرائمها، والقاعدة وأخواتها إلا نتاج لهؤلاء المفكرين الذين لم ينتجوا أفكاراً، وإنما سوقوا وباعوا سموماً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة