نعم انتصرت الرأسمالية واقعيا، وتصاعدت أيديولوجيا العولمة لتفرض نفسها ظاهرة تاريخية كبرى لعقد ونصف العقد على الأقل، وقطعا تم هدم النظام الدولى ثنائى القطبية وانبثق منه نظام أحادى القطبية،
لم تكن نهاية التاريخ، تلك التى أعلنها فرانسيس فوكوياما مطلع تسعينيات القرن العشرين، تعنى توقف تيار الزمن بالمطلق، بل نهاية لمفهوم الصراع الاستراتيجى كما تجلى فى التاريخ الحافل بالانقسامات الجذرية بين البشر، ما يعنى أنها كانت تنويعة جديدة على الفكر اليوتوبى النازع دوما إلى تحقيق الخلاص من قيود واقع تاريخى ما بالهروب إلى الأمام، نحو عالم جديد، يتوقف فيه الشر وتموت نزعة العدوان فينتهى التوحش وتسود المساواة ويتحرر الإنسان من قيود الحاجة وموجبات العنف.
كما لم تكن «نهاية الإنسان» تلك التى أعلنها الرجل بعد عقد واحد (2002م) من إعلانه نهاية التاريخ، فى كتاب حمل العنوان نفسه، تعنى انقراض النوع البشري، بل كانت تعنى أن الفتوحات البيوتكنولوجية الجديدة بلغت حدا من العمق والجذرية صار قادرا على إعادة تشكيل الطبيعة الإنسانية على نحو يستجيب لمنطق هذه الفتوحات، وذلك على أنقاض الطبيعة الإنسانية التقليدية الموروثة عن القرن العشرين والقرون التى سبقته. وإذا كان من الصعب الإدعاء بنهاية دورة العلم والتكنولوجيا الحديثة الآن أو فى وقت قريب، بل إننا على أعتاب مرحلة من أخطر مراحل تقدمها حيث البيوتكنولوجيا والتفهم العلمى الأكبر للمخ البشري، فإن علينا أن نتوقع توالى عملية إعادة التشكيل هذه للشخصية الإنسانية بما يتواكب مع التطورات الكبرى فى العلم والتقنية، الأمر الذى يصوغ رؤية للإنسان تتسم بالنسبية الشديدة تكاد تصل إلى حد العدمية.
والحقيقة أن هذين الإعلانين قد انطويا على مشاعر مركبة. فثمة مشاعر فخر صريحة بانتصار الغرب والرأسمالية، ومشاعر فرح بادية بهزيمة الشيوعية وإمبراطورية الشر! التى استندت إليها وارتكزت عليها. ولكن ثمة أيضا مشاعر قلق مضمرة كشفت من أن تؤدى نهاية التاريخ والإنسان على هذا النحو إلى إفقار العالم، ليس الفقر المادى بالطبع، ولكن الفقر الفكرى والسياسي، حيث إن غياب الصراع الكبير «الإيديولوجى» حول صياغة نظام العالم، وما يستثيره من جسارة ومثالية وخيال، سوف يترك المجال واسعا والفضاء رحبا للصراعات «الصغيرة» حول الحسابات المادية والمشكلات التقنية، وكذلك حول كيفية إشباع الرغبات المحمومة للمستهلكين. وهو أمر يفسره فوكوياما بحقيقة تبدت له خافتة آنذاك، بينما صارت أكثر وضوحا الآن، وهى أن التيارات المناهضة للرأسمالية فى عالمنا لم تكن تمتلك خيالا دافقا، وبدائل مختلفة للمستقبل بعد هزيمة الشيوعية، وتحول اليسار السياسى الأوروبى فى الشرق عن أحلامه الكبيرة فى تغيير المجتمع جذرياً، وكذلك استسلام اليسار فى أوروبا الغربية للرأسمالية وتواضع مطالباته لها على نحو جعله نفعياً وعملياً يمارس السياسة فقط باسم الواقعية. وأخيرا ذبول اليسار الجديد (الثقافي) أو انطواؤه على نفسه، وبالذات مع أفول مدرسة فرانكفورت برحيل المؤسسين الكبار خصوصا تيودو أدورنو وماكس هوركهايمر وهربرت ماركوزا حتى بدا يورجن هابرماس، من الجيل الثانى لها، عصفورا وحيدا لا يصنع ربيعا حقيقيا.
نعم انتصرت الرأسمالية واقعيا، وتصاعدت أيديولوجيا العولمة لتفرض نفسها ظاهرة تاريخية كبرى لعقد ونصف العقد على الأقل، وقطعا تم هدم النظام الدولى ثنائى القطبية وانبثق منه نظام أحادى القطبية، سمح للقوة الأمريكية أن تنتشر وتحتل وتضرب فى أى مكان وكل مكان. لكن، وفى المقابل، بدا العالم فقيرا حقا، حيث انتهى عصر الأفكار الكبيرة. ومن ثم فتح الباب أمام صعود الأصوليات الدينية بديلا عن التيارات الفكرية، ومع انكفاء الجيش الأحمر والتحدى السوفيتى ولد تنظيم القاعدة، وفى موازاة العولمة الرأسمالية تعولمت الظاهرة الإرهابية، وبديلا عن ستالين المرعب كان هناك بن لادن العبثي. ومن ثم لم تعد الليبرالية بكل أطيافها وتعبيراتها الفكرية والسياسية تواجه تحديا خارجيا، موضوعيا وعقلانيا، تعمل بكل جهدها لتنقية ذاتها ومواصلة مسيرتها بموازاته فى مهمة تاريخية مثلما كان الأمر لنحو نصف القرن، بل مارست ما يشبه تكتيكات حرب العصابات، عندما تشابكت خيوطها مع جماعات الإرهاب ومنظماته بدءا من أفغانستان ضمن الصراع الكبير وصولا إلى داعش فى العراق على أنقاض الصراع الكبير وفى خضم الصراعات الصغرى.
لقد غاب المعنى السياسى عن نظام عالمي، يقوده قادة من طراز صغير، وتسوده صراعات صغيرة، فيما تمتلئ جوانبه بالشرور الكبيرة، التى لا يمثل الإرهاب الداعشى سوى الوجه الأكثر صراحة منها. كانت هناك قيادات كبيرة تصغر وهى تحاصر العراق لتجويع أهله وقتل أطفاله الذين بات عزيزا عليهم الحصول على اللبن والدواء. ثم جاءت قيادات صغيرة تكذب على نفسها والعالم من حولها كى تحتل البلد نفسه بأوهى الحجج، حقدا على نظامه وانتقاما من أهله وتخريبا ليس فقط لجيشه بل لاجتماعه المدنى كله، وتسليمه فى صفقة حمقاء إلى ما كان حتى الأمس القريب عدوه القومي، الذى صال فيه وجال وجرح كرامته جرحا قطعيا كبيرا نفذ منه الدواعش إلى قلب المنطقة كلها وخصوصا إلى سوريا على محور طولى ممتد بين الموصل والرقة، حيث جرى ولا تزال تجرى وقائع تفكيك دولتين قديمتين فى المشرق العربى الحزين.
فى سياق هذا الانتقال من الصراع الكبير إلى الصراعات الصغرى تجرى الانتخابات الأمريكية اليوم بين سيدة تعكس الوجه التقدمى للولايات المتحدة، حتى وإن أبدى بعض الناخبين داخل أمريكا تحفظا على مدى حذرها التقنى أو اختلف المراقبون خارجها حول تفصيلات توجهها السياسي. وبين رجل يعكس الوجه الأكثر عنصرية للولايات المتحدة، يكاد يكون بمنزلة النقيض لكل ما يمثله الحلم الأمريكى من تفتح وتحرر وإنسانية، إذ لا يملك من شعارات سوى تأكيد فوقية الرجل الأبيض، واحتقار المرأة، وانعزالية أمريكا، وضرورة امتناعها على المسلمين والملونين. فلمن يصوت الأمريكيون اليوم: لمثل الحداثة السياسية وقيمها، أم لغطرسة القوة البدائية وهمجيتها؟. وإذا كان هذا حال منطقتنا اليوم مع السيد أوباما وما يمثله، فكيف يكون حالنا غدا مع السيد ترامب وما يمثله؟.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة