أكثر ما يخشاه قادة الاتحاد الأوروبي هو تكرار سيناريوهات مماثلة لحالة الخروج البريطاني التي أعطت دوافع إضافية للمشككين في الاتحاد.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يحررها من القيود المفروضة على سيادتها ويمنحها استقلالية أكثر خاصة الجانب الاقتصادي. بالتالي الخروج سيرفع من صوت القوانين الوطنية البريطانية التي تحقق مصالح المواطن في التوظيف والخدمات الصحية والأمن، وما يحول دون تطبيق تلك القوانين حاليا هو تعارضها مع القوانين الأوروبية الاتحادية.
بالإضافة إلى ذلك بريطانيا تريد الخروج من دائرة سقف العجز المفروض من بروكسل عند 3% من الناتج المحلي البريطاني والسقف المحدد للدين العام عند 60% من الناتج المحلي، ومن مراقبة وإشراف المفوضية الأوروبية.
ستكون هناك مرونة أكثر في دعم أي جزئية من جزئيات الاقتصاد دون الحصول على أي موافقات خارجية أو تعارض مع مصالح الآخرين. ولا شك أيضا أن المنظومة القضائية ستكون مستقلة من تأثير المحاكم الأوروبية، وستصبح أحكامها غير ملزمة للمحكمة العليا في لندن.
السؤال الذي ممكن طرحه في الأيام القادمة هو كيف ستتعامل رئيسة الوزراء تيريزا مع ظهور مئات الآلاف من البريطانيين المعارضين لانسحاب بلدهم مطالبين باستفتاء جديد على الانفصال، وأصبحوا على دراية أكبر بعواقب البريكست، أما الجهة الأخرى في مجلس العموم البريطاني فأصبحت تطالب بانتخابات مبكرة.
الاتحاد الأوروبي كغيره من المنظمات الدولية يفرض رسوما أو مساهمات على أعضائه بناء على القوة الاقتصادية، ففي عام 2017 دفعت حكومة بريطانيا 13 مليار جنيه إسترليني إلى ميزانية الاتحاد الأوروبي، وكان من المتوقع أن يبلغ إنفاق الاتحاد على بريطانيا 4 مليارات جنيه إسترليني، لذلك قدرت مساهمة بريطانيا الصافية بنحو 9 مليارات جنيه إسترليني، وبخروجها ستكون معفاة بحكم الواقع من أداء مساهمتها، وبالتالي استخدام هذا المبلغ في الداخل للإنفاق على الصحة والتعليم وغيرهما.
ديفيد كاميرون سعى إلى تعديل القواعد المرتبطة بالهجرة والحد من تدفق الأفراد للاستفادة من سوق العمل، إلا أن مقترحه قوبل بالرفض من الاتحاد، كون حرية انتقال الأفراد أحد أهم بنود منظومة الاتحاد، وتشير آخر الإحصائيات إلى أن عدد المهاجرين في بريطانيا يقدّر بـ863 ألف مهاجر، وهو ما يشكل عبئاً بقيمة تتجاوز 3.67 مليار جنيه إسترليني بناء على تقارير مدرسة لندن الاقتصادية.
أما أكثر ما يقلق دول الاتحاد هو إعادة من لا يعمل ويعيش على المساعدات الاجتماعية إلى بلدانهم، وهو ما سيخلق عبئا ماليا آخر على الدول الأوروبية التي تعاني من تحديات اقتصادية، وكل ذلك من شأنه أن يخفف الضغط على المدارس والمستشفيات والمواصلات، ويقلل من البناء المتسارع، وبالتالي يحظى المواطن الإنجليزي على خدمات أفضل وأولوية في ذلك كما جاء في تقديرات لندن.
فالخروج من الاتحاد الأوروبي هو أفضل طريقة لوقف المزيد من النزيف الاقتصادي والسياسي البريطاني، ولن يؤثر على موقعها كمركز مالي عالمي بسبب تراكم خبراتها في هذا المجال، وكذلك بفضل القوانين والضمانات التي تعطي للمستثمرين الطمأنينة للعمل، وسيتم إصدار «معادلات» للمؤسسات المالية البريطانية ما يسمح للخدمات المالية البريطانية بالقيام بأعمال في الاتحاد وفق بعض الشروط، كما أن التجارة بين الجانبين ستتواصل، لأن هناك دوائر مشتركة سيتم تنظيمها في إطار اتفاقية تجارة حرة، حيث يبلغ حاليا فائض تجارة الاتحاد مع بريطانيا 100 مليار يورو لمصلحة دول الاتحاد، وبالتالي فإن الاتحاد ليس له مصلحة في فقدان هذا الشريك، إلا أن الخروج يعطي بريطانيا فرصا لتنويع الشركاء التجاريين، خاصة مع دول مهمة مثل أمريكا والهند والصين ودول أفريقية وعربية وخليجية، وهي في وضع قد تفقد كثيرا من مصالحها الاستراتيجية في ضوء انحياز بعض الدول الأوروبية كألمانيا مع الموقف الإيراني، وتعتقد شريحة كبيرة جدا في بريطانيا أن تأثير بلادهم داخل الاتحاد ضعيف نوعا ما، وفي حال رحيلها ستتمكن من التصرف بحرية، وبالتالي خلق فرص ذات قيمة مضافة.
لكن أكثر ما يخشاه قادة الاتحاد الأوروبي هو تكرار سيناريوهات مماثلة لحالة الخروج البريطاني التي أعطت دوافع إضافية للمشككين في الاتحاد، خاصة زعماء اليمين المتطرف في كل من فرنسا وهولندا والسويد والدنمارك والمجر وإيطاليا الذين عبروا عن رغبتهم في أن تنظم «كل دولة» تصويتا شعبيا حول الانتماء إلى الاتحاد.
لذا يرى قادة الاتحاد أن استقرار بريطانيا وعدم دفعها ثم الخروج يمكن أن يشجع المزيد من الدول الأعضاء لتكرار سيناريو لندن، ما يؤدي إلى تفكيكه وعودة الصراعات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بين دوله على غرار ما حدث قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، خاصة أن هدف نشأة الاتحاد كان ولا يزال هو منع تكرار هذا النوع من الصراعات.
وبالتالي تصر كل من بروكسل وباريس وبرلين على أن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد بمثابة الضربة الموجعة لها، وأن تدفع ثمن إصرارها على ذلك، وهو أمر أشار إليه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، إذ شدد على عدم التساهل مع الجندي المغادر للجبهة، من جهتها طالبت باريس بمحاربة القوى النابذة واستخلاص العبر من درس الخروج البريطاني، خاصة أن اليمينيين الشعبويين يسعون إلى حل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يخدم التوجهات الروسية في المنطقة الأوروبية.
ويرى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن الخروج في إطار عدم الاتفاق سيؤدي إلى خسارتها لنحو 224 مليار جنيه إسترليني، كما ستدفع لندن لبروكسل 62 مليار دولار قيمة هذا الخروج حتى 2020، وسيؤدي إلى انكماش الاقتصاد البريطاني الذي سينمو بمعدل 1% فقط، نظرا لارتفاع الحواجز الجمركية وغير الجمركية، فصادراتها للاتحاد التي تقدر بنحو 50% من مجموع صادراتها ستخضع لقانون الرسوم الجمركية المفروضة على الدول خارج الاتحاد، كما أن سلاسل التوريد الصناعية ستتأثر بشكل سلبي مع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، وانخفاض فرص العمل ومعدلات نمو الناتج لكل عامل، وستفقد المنطقة المالية في لندن أهميتها العالمية باعتبارها المركز المالي للاتحاد لمصلحة باريس. وبالتالي ستفقد المؤسسات المالية البريطانية وضعها الحالي الذي يسمح لها ببيع خدماتها المالية إلى الدول الثماني والعشرين في الاتحاد، وهو ما يحذر منه مسؤولو حي المال في لندن (السيتي)، مبدين مخاوفهم من عاصفة مالية، بالإضافة إلى ذلك سيؤثر خروج بريطانيا سلبا على تصنيفها الائتماني، كما أن هناك خشية من انخفاض الجنيه الإسترليني، ما سينعكس سلبا على القدرة الشرائية للمواطن البريطاني.
وكنتيجة ستكون هناك حاجة لرفع أسعار الفائدة على مدى 2020-2021 لضمان تقارب التضخم بشكل مستدام مع هدف الحكومة البالغ 2%، كما أن ارتفاع الدين العام وزيادة الصدمات السلبية للنمو يعرض الشعب البريطاني لخيارات صعبة، فإما زيادة الضرائب والرسوم أو تأثر مستوى أو نوعية الخدمات الصحية والتعليمية والمعاشات التقاعدية بطريقة سلبية. وفي حال عدم الوصول إلى اتفاق سيستمر الاضطراب المالي والاقتصادي لخمس سنوات مقبلة على الأقل، ما يفقدها التأثير في الاتحاد على مستوى اقتصادي وسياسي وهذا ما تخشاه حكومة تيريزا ماي.
وبالخروج تفقد بريطانيا جزءا من مكانتها العالمية وأدوات تأثيرها خارج نطاق حيزها الجغرافي وربما تجد نفسها مضطرة لقبول وضع آخر لم تعهده، خصوصا بعد إعلان رئيسة وزراء إسكتلندا نيكولا ستورجيون استعداد بلادها لإجراء استفتاء ثان للاستقلال من بريطانيا والبقاء مع الاتحاد الأوروبي، مما قد يفتح الباب أمام تفكيك المملكة المتحدة. وكذلك إعلان – حزب الشينفين – دعوته لاستفتاء لتوحيد إيرلندا، خاصة أن الإيرلنديين يريدون البقاء في ظل الاتحاد الأوروبي، وفي حال تطبيق بريكست سيفرض الاتحاد الأوروبي إجراءات تفتيش بين إيرلندا الشمالية والجنوبية لحماية سوقه الموحدة، وإذا خرجت بريطانيا من دون اتفاق ستكون هناك حدود فاصلة، وفي الحالتين سينتهي السلام في إيرلندا مما سيخلق أزمة أخرى، وقد تكون هناك عودة لمواجهات شهدناها سابقا.
لا شك أن هناك كثيرا من الدول خارج الاتحاد الأوروبي كروسيا مثلا ترى الخروج كمصلحة استراتيجية قومية يسمح لها ببناء علاقات تعاون في مختلف المجالات مع دول الاتحاد من دون بريطانيا، خصوصا مع وجود تقارب ملحوظ بين موسكو وتيار اليمين المتطرف بالمجتمعات الأوروبية. هذا التقارب في وجهات النظر يعكس الاستراتيجية الروسية سياسية كانت أو عسكرية من خلال طرق غير مباشرة أو غير متماثلة لتحقيق أهداف موسكو في أوروبا والشرق الأوسط. ومن خلال ملاحظة الزيارات لرموز وقادة التيار لموسكو كبرونو غولنيش (أحد رموز حزب الجبهة الوطنية اليميني بفرنسا)، ومارين لوبان المرشحة للرئاسة الفرنسية، ونوربرت هولفر رئيس حزب الحرية النمساوي، أصبح التقارب بصيغة رسمية وواقع تعيشه أوروبا وتحذر منه المفوضية الأوروبية.
السؤال الذي ممكن طرحه في الأيام القادمة هو كيف ستتعامل رئيسة الوزراء تيريزا مع ظهور مئات الآلاف من البريطانيين معارضين لانسحاب بلدهم، مطالبين باستفتاء جديد على الانفصال، وأصبحوا على دراية أكبر بعواقب البريكست، أما الجهة الأخرى في مجلس العموم البريطاني فأصبحت تطالب بانتخابات مبكرة.
نقلاً عن "عكاظ"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة