تشير تطورات الحرب الروسية الأوكرانية إلى مسار جديد قد يكون عنوانه الرئيس استمرار العمل العسكري وانفتاح المشهد على سيناريوهات متعددة.
يأتي هذا مع تسارع الاستعدادات العسكرية وتمهيد الأجواء الأوروبية بصورة واضحة تجاه دعم أوكرانيا، وفي إطار مخطط لفتح مسارح عمليات جديدة لمناكفة روسيا وتطويقها استراتيجيا، وقد برز ذلك في إطار إعادة تموضع قوات الناتو، ودعم رومانيا ودول المواجهة الاستراتيجية بنشر أنظمة دفاع أمريكية، والتجاوب اللافت والمثير من قبل الحكومة الألمانية وموقفها تجاه طلب وارسو السماح لها بإرسال 14 دبابة ثقيلة من طراز "ليوبارد 2" ألمانية الصنع إلى كييف، ما يشير إلى تحول كبير نحو التصعيد التدريجي من الغرب بتسليح أوكرانيا بما تطلبه من احتياجات ومساعدات عسكرية، مع التأكيد أن الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وبريطانيا، تريدان نقل رسالة من وراء التصعيد في التسليح الراهن بأن الدول الغربية الكبرى ماضية في الاستجابة إلى متطلبات الجانب الأوكراني ولن تتراجع بل سيتزيد.
وسترتبط بما يجري على هذا الصعيد عدة نقاط:
الأولى: اقتناع الجانب الغربي والولايات المتحدة بأن أوكرانيا نجحت إلى حد كبير في المواجهة العسكرية، وأن مزيدا من الدعم العسكري والتجاوب مع متطلباتها قد يؤدي إلى هزيمة روسيا، بل وإمكانية تحقيق نجاحات حقيقية في مسرح العمليات، ومن ثم فإن الرهانات المطروحة من الولايات المتحدة بأن إيقاع الهزيمة بالجانب الروسي محتمل، وذلك بهدف تقييد الحركة الروسية لاحقا في امتدادات أوكرانيا، ما قد يضع منطقة شرق أوروبا في خطر، وسيعطي الجانب الروسي الفرصة للتمدد، واتباع خيار القوة الروسية العسكرية عند الضرورة.
الثانية: أن أي رد فعل روسي متوقع سينطلق من جملة حسابات عسكرية، خاصة أن شروط روسيا من العمل العسكري واضحة منذ البداية، وهي عدم تمدد الناتو قرب المجال الروسي، وهو ما لم يعد مطروحا في ظل ما يجري، وعدم تخوف الغرب بالفعل من التحذير الروسي، كما كان في البداية، خاصة أن أراضي الناتو بدوله معلومة، حيث لا يوجد ما يشير إلى انتقال العمليات إلى مواقع أخرى، وإن كانت رومانيا وبولندا في الواجهة، مع التأكيد أن انتقال المهام وتمهيد الأجواء في مسارح عمليات أخرى سيدفع روسيا لوضع البلدين في دائرة الاستهداف العسكري، بل قد يؤدي إلى جس نبض الدول الغربية والولايات المتحدة في التعامل.
ولعل ذلك يمثل مكمن التخوف من بعض البلدان الأوروبية حال التصعيد، وفي ظل خريطة سياسية معقدة، وتحالفات تجري في نطاق من التشابكات الحقيقية، ومنها التحالف الروسي-الصيني، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيير في المقاربة السياسية والعسكرية إذا دخلت الصين على خط ما يجري، وهو ما تتخوف من تبعاته الولايات المتحدة.
وترى بعض دول شرق أوروبا أن تكلفة ما يجري كبيرة، وأن التصعيد سيشمل الجميع أوروبيا وأمريكيا، وأنه من الضروري مراجعة الموقف الراهن، ولكن مع الإلحاح الأوكراني للحصول على مزيد من الأسلحة والأنظمة الدفاعية، فإن الدول الأوربية لن تكون أمامها خيارات كثيرة، بدليل أن أوكرانيا ركزت على طلب محدد، وهو الحصول على دبابات ومدرعات ومدفعية لاستعادة أراضيها بعد التحركات الروسية في سوليدار وباخموت، والاقتراب من إقليم دونباس بما يمثله من أهمية استراتيجية كبيرة، ومراقبة النشاط العسكري الروسي وتكثيف رحلات استطلاع بشكل حصري فوق أراضي الدول الأعضاء بالحلف، كما سيتم نشر قوة بشرية تصل إلى 180 فردا عسكريا لدعم الطائرات، مع التوقع بأن المشكلة الرئيسة ستكون في إطار احتمال حدوث التوترات المتصاعدة في المجال الجوي فوق بحر البلطيق بين قوات الناتو وروسيا.
الثالثة: ما يجري من تطورات بنيوية في الجيش الروسي، وإنشاء هياكل جديدة في المناطق المحيطة بموسكو وسانت بطرسبيرج وكاريليا على الحدود مع فنلندا في إطار البرنامج الاستراتيجي، والعمل على زيادة حجم الجيش الروسي من المستوى المستهدف الحالي، البالغ مليونا ونصف المليون، إلى زيادات لم تعلن رسميا، مع إنشاء وحدات مكتفية ذاتية على الأراضي التي ضمتها روسيا من أوكرانيا، مع إعلان روسيا رسميا التوسع في جميع فروع الجيش الروسي، وليس بمستبعد أن يقدم الجانب الروسي لدعم مواقفه داخليا وتخويف الولايات المتحدة ودول الناتو من استخدام حذر ومحسوب للنووي، خاصة أن التغييرات التي تمت في قيادة الجيش الروسي وتصعيد مجموعة من الجنرالات في سدة القيادة العسكرية العليا تشير إلى أن الداخل الروسي بات جزءا كبيرا في المعادلة الراهنة، ويعمل في اتجاه محدد عبر مقاربة عسكرية.
الرابعة: ستدفع التطورات السياسية والاستراتيجية للتأكيد أن المواجهة الراهنة ستستمر، ولن تتوقف إلا في أجواء ترتبط باقتناع الطرفين، الغربي والأوكراني، بأن المواجهة مكلفة عسكريا وأمنيا واستراتيجيا، فروسيا لا تريد تقديم تنازلات بعد أن حققت بالفعل أهدافها الاستراتيجية برغم التكلفة العالية.
مجمل القول إن روسيا لن تتوقف عن العمل العسكري، كما تتصور دول الناتو، بل ستعمل في نطاق استراتيجي واسع عبر استراتيجية ممتدة، وربما -حال استمرار التسليح الغربي المندفع لأوكرانيا- أن تقدم روسيا لتحويل مسار العملية العسكرية الراهن إلى حرب شاملة، ما سيكلف الولايات المتحدة ودول الناتو الكثير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة