"حقول من الدماء" لكارن أرمسترونج.. الدين بريء
ترجمة عربية جديدة لكتاب الباحثة الشهيرة كارن أرمسترونج "حقول من الدماء ـ الدين وتاريخ العنف".
بعدما صار "الدين" عموما، والإسلام بصفة خاصة، يشار إليه بأصابع الاتهام باعتباره يقف وراء العنف الذي تشهده بقاع مختلفة من الأرض، وتنادى كثيرون بأن جذر هذا العنف الكامن وراء هذه الحقول الجارية من الدماء هو "الدين"، بدا أن دراسة رصينة من واقع الحفر في تاريخ المعرفة، ومسارات الديانات الإبراهيمية عبر التاريخ، مع وقفات متأنية لدى محطات تاريخية في تاريخ الإسلام الذي مورس باسمه وتمسحاً بكتابه المقدس جرائم وحشية، ضرورية ولازمة لفحص مثل هذه الفرضيات ومراجعتها وإخضاعها لمجهر النقد والتحليل.
هكذا قررت الباحثة البريطانية الشهيرة كارن أرمسترونج، الباحثة المتخصصة في علم الأديان المقارن، أن تتصدى لهذه الدراسة وأن ترتاد الطريق الصعب، وتسبح ضد التيار، في كتابها "حقول من الدماء ـ الدين وتاريخ العنف" (2014)، والذي صدرت ترجمة عربية جديدة له عن دار سطور بالقاهرة (ديسمبر 2016)، بتوقيع الدكتورة فاطمة نصر.
ترفض كارن أرمسترونج القول بأن الدين في جوهره "عنيف" أو "يدعو للعنف"، ترى أرمسترونج أن القول بأن الدين "عدواني" دائما، قول غير صحيح، بل إنها تذهب إلى أن الدين يعمل على كبح جماح العنف، وضربت على ذلك أمثلة عديدة من تاريخ الأديان السماوية والوضعية. تقول كارن في مقدمة كتابها:
"من السذاجة أن نعتقد أننا يمكننا خلق عالم بدون حروب، وأنا قمتُ بكتابة هذا الكتاب لأنني أشعر بالخوف من مصيرنا المقبل، لقد صنعنا القنابل التي يمكنها محو العالم، والقانون الدولي يسمح باستخدام هذه الأسلحة النووية في حال تهديد أمن الأمة، حتى لو كان إطلاقها سيؤدي إلى تدمير الأمة بأكملها، هذا ما يسمى بالرغبة الانتحارية، وهي مماثلة للعقلية الإرهابية التي يعمل بها الجهاديون على تفجير أنفسهم وهم يعلمون بأن مصيرهم الموت، والفرق بينهما أن هذه الأخيرة هي شكل بدائي من رغبة الانتحار، ولن يمر وقت طويل قبل أن يمتلك تنظيم "القاعدة" أو أحد هذه الجماعات نوعاً من الأسلحة النووية. الوضع خطير، ونحن مضطرون لفتح أعيننا ومشاهدة ما يحدث. الموضوع ليست له علاقة بالأديان أو بالإسلام أو غيره".
ترى أرمسترونج أن المجتمع الحديث في الغرب قد صنع من الإيمان كبش فداء. تنبش هي وراء هذه الفكرة؛ فكرة "قبول أن الدين عنيف في جوهره والتعامل معه باعتباره من البديهيات البينة"، كما هي قائمة في الغرب، ترفض كارن هذا تماما، تقول "بصفتي أتحدث عن الدين، فدائما ما أسمع كيف أن الدين ظل قاسيا وعدوانيا، وذلك رأي يعبر عنه بنفس الأسلوب، كل مرة تقريبا. إن الدين ظل هو سبب جميع الحروب الكبرى في التاريخ. سمعت تلك الجملة يتم تكرارها دوما من قبل معلقين أمريكيين وعلماء نفس، وسائقي عربات أجرة في لندن، وأكاديميين بأكسفورد".
تبدي أرمسترونج استغرابها الشديد من قبول هذه الفرضية بمثل هذا الانتشار الواسع، ترد بسخرية واضحة، وتهكم لاذع "يبدو هنا أنه حينما يناقشون أسباب اندلاع الحروب بين البشر، يعترف المؤرخون الحربيون بتداخل عوامل اجتماعية ومادية وأيديولوجية كثيرة كأسباب للحروب، وعلى رأسها التنافس على الموارد الشحيحة. في هذه الحالة يبدو مثل هذا التعليق غريبا وشاذا. إذ يصر الخبراء في العنف السياسي أو الإرهاب، أيضا، على أن الناس يرتكبون البشاعات نتيجة مدى معقد من الأسباب. وعلى الرغم من ذلك، فإن الصورة العدوانية للعقيدة الدينية في وعينا العلماني، غدت ثابتة ومن الصعب محوها بدرجة أننا، وبشكل روتيني، نحمل خطايا القرن العشرين العنيفة على ظهر "الدين"، ثم نطلقه في البراري السياسية.
بل إن حتى هؤلاء الذين يعترفون بأن الدين غير مسؤول عن جميع أنواع أعمال العنف والحروب للجنس البشري يأخذون طبيعته القتالية الجوهرية أمرا بديهيا. يزعمون أن الديانات التوحيدية الثلاث متعصبة بخاصة، وأنه بمجرد أن يعتقد مجموعة من الناس أن الرب في جانبهم، تصبح الحلول الوسطى، والتنازلات، من الأمور المحالة.
إن كارن أرمسترونج صاحبة المؤلفات التي ذاع صيتها في علم الأديان المقارن، والتي اتصفت بقدر كبير من العقلانية والتحليل المنطقي، من دون التورط في مفاهيم مُسبقة عن النظرة الغربية للشرق والإسلام، تناقش في هذا الكتاب الضخم (تقع الترجمة العربية في 632 صفحة من القطع الكبير) موضوع مدى مسؤولية الأديان في انتشار العنف، خاصة في اللحظة الراهنة، التي أصبح الإسلام فيها، في نظر البعض، يشكل الخطر الأكبر، بظهور العديد من التنظيمات والحركات الإرهابية، وأبرزها تنظيم "داعش" الدموي. أثار هذا الكتاب الكثير من الجدل في الغرب، وربما حال قراءته في الترجمة العربية سيثير مجالا واسع المدى لجدل محتدم ونقاش مفتوح على مصراعيه خاصة في ما يتصل بالنظرة الكلية لتاريخ الأديان بشكل عام، والإسلام بصفة خاصة.