الجهل يولد الاستبداد والوهم وهي ثلاثية الشر وعندما يسود المجتمع الخطاب بوصفه حوارا والقانون بوصفه توافقا تتعزز عقلانية التعايش المجتمعي
صحيح أن الجهل هو الاعتقاد بشيء على خلاف حقيقته، والصحيح أيضًا أن الجهل إذا ما تأخرت محاصرته ومواجهته، بوصفه جهلاً فسوف تتولد منه ضلالات تسكن أفكار الناس،
فتشكل خطورة تستلب من العلم والحقيقة فاعليتهما الاجتماعية؛ لذا فالتقدم المطرد الذى يكشف عن معارف جديدة، عبر تحولات معرفية بدلائلها -بوصفها جسرًا معرفيًا يحدد العبور إلى الحقيقة- هو الذى يحاصر الجهل ويتحقق منه ويواجهه؛ لذلك فإن أى إهمال، أو إنكار للنمو والتقدم بحقائقه ودلائله، هو الضلال والجهل المبتذل، وهو الطريق المؤدى إلى العنف والفوضى، ولا غرابة أن يقود ذلك الضلال بلادًا سنوات طوالاً حتى تعرف أن اعتقاداتها محض أمر مغلوط، وقد يكون أحد فخاخ ذلك التأخر الزمنى نتيجة فرط وفاء المجتمع للأفكار القديمة المهيمنة. صحيح أن النهج العلمى يمارس التنقيب ليطرح فرضيات متعددة، منها ما يسمى اختراعا، والآخر يسمى اكتشافًا، حيث تحدد التجربة يقين نجاحهما بوصفها المواجهة الوحيدة الممكنة والمشروعة، التى تثبت إما قابلية صواب الاختراع والاكتشاف وفاعليته، وإما القابلية للتكذيب؛ إذ التجربة تعد معيارًا حاسمًا أكثر من الاستصواب أو التكذيب النظرى من أحد المختصين أو أكثر دون يقين التجربة. وصحيح أيضًا أن “التجربة العلمية” لا تبتر الحقائق، ولا تنتقيها، أو تشوهها، وأيضًا لا ترغم على رؤية ما ليس موجودًا، لكن الصحيح كذلك أن ثمة عقبات تشكل فواجع كبرى، تتولد عندما يخضع العلم لعقيدة سياسية، عندئذ تبدأ الخيبات، وذلك ما شخصه عالم الأحياء الفرنسي، “فرانسوا جاكوب”، بقوله: “ظل علم الوراثة طيلة القرن العشرين مغروسًا فى وحل السياسة”.
اغتصبت مجاعة هائلة مساحات شاسعة من الاتحاد السوفيتى وخاصة من أوكرانيا، فى ثلاثينيات القرن العشرين خلال حكم “ستالين”، إذ التهمت المجاعة بشحنات من القسر والحتمية ملايين الأرواح، تشكلت غالبيتهم من مزارعى القمح. وقد تنوع جدل البحث عن الأسباب، لكنه كان مسكونًا بهاجس رئيسى تبدى فى قناعة الأوكرانيين أن المجاعة استهدفت التجويع الجماعى لهم لضمان خضوع أوكرانيا. وفى سياق الإجراءات التوليدية لمواجهة الأزمة ظهر “ليسينكو”، وهو عالم سوفيتى من أصل أوكرانى فى تخصص النبات والوراثة، ويتمتع بالقدرة على زراعة الحبوب خارج مواسمها، ومضاعفة إنتاجية الأرض. ترى هل يعد ذلك الظهور اختراقًا متعمدًا للفراغ الذى طرحته الأزمة من قبل الوعى الحاد بها؟ يبدو أن “ليسينكو” قد أدرك أن رهان ظهوره السياسى فى احترافه أن يكون نموذجًا لافتًا أمام الجميع فى انتمائه إلى مجتمعه كمواطن، واعتناقه للعقيدة الفكرية السياسية الحاكمة، وملازمتها بوصفها التى تؤسس حياة مجتمع هذا الوطن؛ لذلك كان حريصًا على أن تتجلى هذه الثنائية دومًا سلوكًا يؤكد إخلاصه للثورة، وولاءه للحزب الحاكم. خلال تلك الأزمة كان المنظر الوحيد المتاحة رؤيته فى كل مكان هو الجوع، وكان على «ستالين» احتواء تلك الأزمة بوصفه حاكمًا عقائديًا سياسيًا، ولأن الاستحالة كانت إجرائية؛ حيث ينحصر احتواؤها وتغطيتها سياسيًا بين توجهين، أحدهما يتبدى فى ممارسة “ستالين” تعبئة مشاعر شعبه واستقطابه وتطويعه بتحمل المجاعة والتعايش معها، ومداومة بث ذلك الانطباع كمشاعر معزولة عن الفهم إلى الناس وتوطينها لديهم، أما التوجه الثانى الذى يجب أن يرافق ذلك على التوازى تحديدًا، فهو الإفصاح المعلن عن بدء التصدى العلمى للأزمة؛ انطلاقًا من أنه يكفى للوعى الجمعى تسمية حد البدء، ثم الانخراط فى وهم النهاية كتصور. أسندت إلى “ليسينكو” تلك المهمة بدعم من “ستالين”، وهكذا، دون عبقرية خارقة، أو اكتساب لمزية، قفز “ليسينكو” وحمل على كاهله ليس تلك المهمة فحسب؛ بل أصبح أهم علماء السوفيت، دون أى وثوقيات علمية، وذلك بالمخالفة لإجماع علماء عصره الذين وصفوه بالجهل والدجل، ثم عين “ليسنيكو” مديرًا لمعهد علم الوراثة للأكاديمية السوفيتية. ترى هل يمكن أن تقوم بين العقل الواقع أنواع من العوائق والحواجز؟
شكلت نظرية الوراثة فى الاتحاد السوفيتى أهمية فكرية بالغة، انطلاقًا من أنها صيغة للتطور تستهدف بناء نظرية اجتماعية وحتمية لتغيير الواقع، وكان ثمة توجهان علميان أولهما، ما يعرف بنظرية «مندل» التى ترى أن الصفات الوراثية التى تنتقل إلى الأبناء، تأتى بدقة، ونسب نظامية من الأبوين بالتساوى دون تدخل البيئة، أما التوجه الثانى فهو ما يعرف بنظرية «لامارك»، التى ترى تغليب دور البيئة إيمانًا بإمكانية توريث الصفات المكتسبة؛ إذ بتغيير الظروف البيئية يمكن أن تتغير الصفات الوراثية عند الكائن الذى يخضع لتلك الظروف، وذلك بدوره ما ينقل الصفات الجديدة وراثيًا. صحيح أن الإنسان منشغل بما لم يكنه بعد، والصحيح أيضًا أن ذلك سبب حريته التى لا تورث، لكن الصحيح كذلك أن آفاق إمكانات التغيير فى البشر التى تطرحها نظرية «لامارك»، دفعت الجماعة الفكرية الحاكمة من المسئولين إلى أن يجعلوا هذه النظرية التوجه الرسمى للاتحاد السوفيتي، وكان «ليسنيكو»- المدعوم من السلطة- من أنصار ذلك التوجه، ليس بوصفه منهجًا علميًا يخضع للدحض والتفنيد؛ بل بمرتبة العقيدة المسيطرة؛ إذ كانت الحجة التى يشهرها ضد أنصار نظرية «مندل» أنها تعارض المادية الجدلية، وهو ما يعنى عدم توافقها مع المبادئ الماركسية، فى حين أن نظرية «لامارك» التى يعتنقها “ليسنيكو”، قد خضعت للفحص تجريبيًا بمعرفة أحد أهم علماء الأحياء فى ألمانيا، هو أوجست ويزمان (1834 – 1914 )، وأثبتت التجربة فشل النظرية، كما أن العالم النمساوى بول كاميرر (1880 – 1926) ادعى أنه توصل إلى البرهان التجريبى على صحة وراثة الصفات المكتسبة، لكن عندما فند بعض العلماء المقتدرين ما ادعاه تجريبيًا، تبين تزويره وكذبه، فانتحر. لقد وجد “ليسنيكو” نفسه وسط أكاديميين على قدر عال من الاقتدار العلمي، يناصرون نظرية «مندل»، فراح يناصبهم العداء بأسمائهم علنًا فى خطاباته الرسمية المعلنة مستعديًا عليهم السلطة؛ لذا تم توقيف عالم الوراثة الشهير نيكولاى فافيلوف (1887 –1943) ومحاكمته عام 1940 لانتقاده علم الأحياء السوفيتى وانفصاله عن مسار العلم فى العالم، فحكم عليه بالإعدام، لكنه قبل تنفيذ الحكم مات بالسجن عام 1943، ثم توالت قائمة العلماء الذين سجنوا لمعارضتهم المفاهيم الزائفة المفروضة. وظل «ليسنيكو» متربعًا على عرش علم الوراثة طيلة فترة حكم «ستالين» حتى أوائل الستينيات، رافضًا علم الوراثة الحديث ومعاديًا له، فكان بتسلطه وهيمنته، وتقاريره المضادة للعلماء المختلفين معه وطردهم، قد آسهم فى تأخر علم الوراثة فى الاتحاد السوفيتي، كما تظل السلطة السياسية أيام «ستالين» لا تستطيع إخفاء دورها، حيث بدعمها انتصر الجهل على العلم الحقيقي، وبقدر ما أدعت تلك السلطة استيعابها للتاريخ، فقد خرجت منه. إن الجهل يولد الاستبداد والوهم وهى ثلاثية الشر، لكن عندما يسود المجتمع “الخطاب” بوصفه حوارًا، و”القانون” بوصفه توافقًا، دون كراهية الآخر واستبعاده، عندئذ تتعزز عقلانية التعايش المجتمعي، وتتحقق إمكانية فهم الواقع والمستجدات والشروع فى تحليلها دون تعسف وضلال؛ بل بيقين العلم.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة