في عالم الأدب كما في دهاليز السياسة، تظلّ المراحل والتحولات والخطوات هي العلامات التي تقودنا نحو المجهول وتكشف الغموض.
فرواية التسع والثلاثون خطوة للأسكتلندي John Buchan جسّدت مطاردة طويلة وراء خيوط مؤامرة دولية وبحثًا عن الحقيقة، وفي كل خطوة يفتح بابًا لغموض أعمق.
ومن صفحات الرواية إلى خطة ترامب 20، حيث خرج دونالد ترامب بخطتهِ ذات العشرين بندًا، والتي تمثل مسارًا في إنهاء حرب غزة ووقف إطلاق النار، وإعادة الرهائن الإسرائيليين، وفي المقابل هناك إطلاق لأسرى فلسطينيين، ونزع وتفكيك سلاح حركة حماس، إلى جانب نشر قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في القطاع، مع توفير ممر آمن لمن يرغب في مغادرة غزة، ومن البنود المهمة إعادة إعمار القطاع تحت إشراف دولي يسمى "مجلس السلام" لا يرتبط بالأمم المتحدة.
فعلى غرار كاتب الرواية في صناعة الشخصيات والحبكة، تقوم إدارة الرئيس دونالد ترامب بتوزيع الأدوار، كما تحدد الأهداف والمكاسب والخسائر.
ففي الأدوار السياسية تبدو حكومة نتنياهو اليمينية هي الكاسب والخاسر في نفس الوقت، نظرًا لعدم قدرتها على الاستمرار في التصادم مع الدعم الدولي للشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية، خاصةً في الاعتراف الدولي الكبير في مؤتمر الأمم المتحدة الأخير، وأيضًا مع الإدانة الواسعة الموجّهة لحكومة نتنياهو في جرائم الحرب والإبادة، وتتضح الخسارة بعد سنتين من السابع من أكتوبر، في عدم قدرتها على تهجير أهل غزة، والذي كان سيمهد للاستيلاء على الضفة الغربية كاملةً، وإنهاء إمكانية قيام دولة فلسطينية. ومن الأهمية بمكان أن نتنياهو في طريقهِ لتسويق خطة ترامب، وسوف يخسر دعم اليمين المتطرف معوّلًا على دعم اليمين الوسط.
وبعيدًا عن الحكومة اليمينية المتطرفة، إن أهم المكاسب على الإطلاق هو المكسب الإنساني في توقف عمليات القتل والإبادة بحق شعب غزة الفلسطيني، وفتح وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة دون منع من إسرائيل، إلى جانب توقف عمليات تمزيق الضفة الغربية وضمها. أما السلطة الفلسطينية فتبدو موافقة على مضض لأن الخطة تضع غزة تحت إشراف وإدارة دولية تسمى "مجلس السلام" برئاسة ترامب ومشاركة شخصيات بارزة مثل توني بلير وشخصيات أخرى من الدول الداعمة مع إداريين تكنوقراطيين بينهم فلسطينيون، وذلك للإشراف على المرحلة الانتقالية في غزة.
قطعًا، هذا الأمر يقلل من شرعية فتح كممثل رسمي وحيد للشعب الفلسطيني، خاصة بعد الاعتراف الدولي الكبير بدولة فلسطين ممثلةً بمنظمة فتح في مؤتمر الأمم المتحدة الأخير، كما أن في البنود إعادة هيكلة منظمة فتح عبر شرط إجراءات إصلاحية داخلية كشرط لإتمام المرحلة الانتقالية.
أما حركة حماس فهي في حالة الخاسر في كل الأحوال والأوضاع، فحماس يُفرض عليها التراجع ونزع السلاح وتدمير البنية العسكرية، بما في ذلك الأنفاق والمرافق العسكرية، فلن تستطيع "حماس" البقاء وسط الضغوط الدولية الكبيرة ووسط الإبادة والدمار في قطاع غزة، وهناك معلومات عن أن الخطة تفسح الخيارات أمام المنتمين لحركة حماس بين العيش كمواطنين مدنيين من أهل غزة أو تأمين خروجهم إلى بلدان أخرى وضمان سلامتهم، فحماس في طريقها إلى تفكيك نفسها لا محالة.
وتحمل خطة ترامب غموضًا أو نقاطًا غير واضحة يمكن أن تُثير التساؤلات عند التنفيذ، فهناك في خطة ترامب العديد من البنود التي تحتاج توضيحًا وتفصيلًا حول التنفيذ والرقابة والمسؤوليات، فمثلًا "مجلس السلام" بقيادة ترامب وشخصيات دولية مثل توني بلير وآخرين لا تنبثق من مرجعية قانونية واضحة كأن تتبع مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، مما يجعل الأمر أقرب إلى هيئة الوصاية الدولية.
وإذا كانت رواية 39 خطوة تبحث عن الكشف والوصول إلى الحقيقة، إلا أن خطة ترامب أغمضت عن حقيقة الصراع حول حصول الشعب الفلسطيني على حقوقهِ في دولتهِ المستقلة، فالخطة لم تذكر موضوع قيام دولة فلسطينية كبند رسمي، وهو ما يشكل أحد الغموض والنقاط المثيرة للجدل، علاوة على ربط مطالب الشعب الفلسطيني في تحقيق دولته بإصلاحات منظمة السلطة الفلسطينية "فتح". فالخطة تركز على وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار، ونزع سلاح حماس وتفكيكها، وإصلاح السلطة الفلسطينية، دون ذكر إقامة دولة مستقلة. أي أن الخطة لا توفر حلًا سياسيًا نهائيًا لقضية الدولة الفلسطينية. لا شك أن أعضاء وداعمي حكومة نتنياهو اليمينية يرون ذلك كفرصة لتقليل الضغوط السياسية تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لا يمكن الحكم على هذه الخطة وبنودها العشرين، فرغم الدعم الدولي لها، فهناك انتظار لموافقة الطرفين الرئيسين حكومة نتنياهو اليمينية وحركة حماس، إلى جانب أهمية موافقة سلطة فتح الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، مع أهمية وجود ضمانات ومشاركة دولية حية وقوية في تنفيذها والرقابة عليها، ومن الأهمية بمكان بأن هذه الخطة وإدارة وإعادة الأعمار في غزة ستحتاج إلى سنوات لا تقل عن الخمس.
في الخاتمة، بينما رواية 39 خطوة خلدة كاتبها عبر أجيال كأحد رواد الغموض والمغامرة والمطاردة والبحث عن الحقيقة، فهل هذه الخطة المدعومة دولياً ستخلد الرئيس الأمريكي ترامب في التمهيد لقيام دولة فلسطينية في المستقبل المنظور، أو سوف يكون لها الدور الكبير في انهاء هذه الإبادة في غزة وعدم ضم الضفة الغربية، فالأمر العظيم هذا قد يمكنهُ من الحصول على جائزة نوبل للسلام الذي يلهث وراءها، أو ستكون هذه الخطة وبنودها محطة توقف في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لبدأ مراحل أخرى في الصراع، فليس هناك على أرض واقع ما تشهده غزة من حرب وتدمير وإبادة من الحديث عن رفض لهذه الخطة الترامبية المدعومة دولياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة