لم يكَد العالم العربي، على الأقل نخبه السياسية، يستفيق من صدمة التصريحات "الثقيلة" للسفير الأمريكي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا توماس براك، حتى تلقى منه لكمة أخرى في تصريحاته مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إذ قال نصاً: «لا يوجد شرق أوسط، وإنما قبائل وقرى ودول قومية أنشأها سايكس–بيكو... أعتقد أنه وهم أن نرى 27 دولة مختلقة فيها 110 مجموعات إثنية تتفق على مفهوم سياسي»، هذا بعض ما يجب أن يتنبه إليه العرب في نظرة الغرب إليهم، فالعرب ليسوا واحداً، كما أن الغرب ليس واحداً، وحتى آراء توم براك، سواء تلك التي استخلصتها هادلي غامبل في مقابلتها التلفزيونية معه أو تصريحاته العابرة، تبقى كلمات ثقيلة وآراء قد تبدو وقحة، لكنها تحمل شيئاً من الواقعية المؤلمة.
لطالما نظر العرب إلى اليمن باعتباره بلداً يختزن من العراقة والتقاليد والأعراف ما يجعل الكثيرين يتباهون بالانتساب إليه بوصفه أصل العروبة كما يعتقدون، لكنهم، في المقابل، لطالما رأوا في حروبه وجوعه أمثولةً من عصور القرون الوسطى، أو على الأقل اعتبروا أن هذا الجزء من العالم العربي ما زال يعيش طور القبيلة، ولم يعرف حتى مطالع القرن الحادي والعشرين الانتقال الحقيقي إلى الدولة الحديثة، وكذلك لبنان، فهو نسخة يمنية بالأديان والطوائف، حيث حلت الطائفة محل القبيلة، والتحالفات الخارجية باتت هي نفسها التي تملي مسارات الداخل وتضبط إيقاع السياسة، يشبه لبنان اليمن في هشاشته، في افتخاره بالماضي وعجزه عن صياغة حاضر مستقر، وفي أن دولته بقيت مشروعاً ناقصاً منذ نشأتها، متأرجحة بين الولاءات المتنازعة والحدود الهشة.
العراق كان رمزاً آخر تهاوى مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ليتحول من دولة مركزية قوية إلى ساحة انقسام ومحاصصة، أما سوريا والسودان وليبيا، فلا شيء يوحي بأن هذه الأجزاء من العالم العربي سوى قبائل تتقاتل على الغنائم، حتى التجربة الديمقراطية العربية تحولت إلى محاصصة قبلية وطائفية تمنح حصانة من كل شيء وفي كل شيء، وتمنع ولادة مفهوم الدولة الوطنية الجامعة، وما أراده براك من توصيفه الفجّ هو تذكير العرب بما يتجاهلونه بأن الصراع على الشرعية لم يُحسم بعد، وأن الدولة الحديثة في المنطقة ما زالت في طور التكوين، وربما لم تولد بعد، صحيح أن كلماته جارحة، لكنها مرآة لواقع لا يمكن إنكاره الشرق الأوسط لم يعرف يوماً معنى السلام، ولم ينجح حتى الآن في بناء منظومة سياسية جامعة، بل ظل أسيراً لمعادلات القوة، وميزان السلاح، ومجتمع القبيلة أو الطائفة.
إن صدمة العرب من كلمات توم براك لا تكمن في وقعها الوقح بقدر ما تكمن في صدقها المرير، فالعالم لا ينظر إلى هذه المنطقة بما ترويه كتب الأدب والسياسة عن "الأمة الواحدة"، بل بما تفضحه الوقائع اليومية من تفكك وتنازع داخلي وتبعية للخارج، منذ سايكس–بيكو وحتى اليوم، لم تنجح الدولة الوطنية العربية في أن تتحول إلى عقد اجتماعي صلب، بل بقيت في أحسن حالاتها تركيبة هشة بين الطائفة والقبيلة والسلطة، وفي أسوأ حالاتها مجرد غنيمة يتداولها المنتصرون، وإذا كان براك قد قال إن "السلام مجرد وهم"، فربما كان يقصد أن المنطقة لم تعرف لحظة استقرار حقيقي، لأن مفهوم الشرعية نفسه ظل محل نزاع فشرعية الدولة، شرعية السلاح، شرعية الدين، وشرعية الخارج الذي يفرض شروطه، والنتيجة أن الشرعية الوحيدة الثابتة كانت شرعية القوة.
لكن ما يتجاهله براك هو أن هذه الصورة ليست قدراً محتوماً، جزء كبير من مسؤوليتها يقع على السياسات الأميركية والغربية نفسها التي غذّت الانقسامات ودعمت أنظمة على حساب أخرى، وحالت دون نشوء مشروع وطني جامع، وكما قال مالك بن نبي: «الاستعمار ليس من عبث السياسة، بل من فساد قابلية الاستعمار فينا»، فكما أن العرب لم يحسموا أمرهم في بناء الدولة الحديثة، فإن الغرب أيضاً لم يكف عن التعامل معهم كفسيفساء يسهل تفكيكها وإدارتها بالتحالفات الجزئية.
اليوم، ومع كل حرب جديدة في غزة أو لبنان أو اليمن، يعيد الخطاب الغربي إنتاج ذاته .. شعوب لا تعرف الدولة، وأنظمة تعيش بالقبيلة والطائفة، لكن الحقيقة أن هذه المنطقة، بما حملته من حضارات وأديان، وبما تمتلكه من طاقات بشرية واقتصادية، قادرة على أن تكتب روايتها المختلفة إذا خرجت من أسر الوصاية الداخلية والخارجية معاً، هنا نستذكر ما قاله جمال عبد الناصر: «إن الاستعمار لا يرضى عن ثورة العرب، لأنه يريدهم قبائل متفرقة لا أمماً متحدة»، تصريحات توم براك يجب أن تُقرأ لا كإهانة، بل كجرس إنذار. إما أن نستمر في ترديد أن الغرب لا يفهمنا، أو نواجه الحقيقة المرّة ونقرّ أننا لم ننجز مشروع الدولة الوطنية بعد، وأن كل ما نملكه حتى اللحظة هو مساحات متنازعة تعيش على حافة السلم الأهلي، تنتظر أي رياح خارجية لتشتعل من جديد.
لكن القبول بفجاجة آراء براك أو غيره لا يعني أن العرب جميعاً تحت خط الفشل، فقد أجبر المصريون البريطانيين والفرنسيين على الرحيل، وبدأت شعوب المنطقة تجارب سياسية بعضها تعثر، لكن أخرى نجحت في بناء دول وطنية ثابتة، هناك دول وضعت معايير عالمية في الأمن والاقتصاد، بل وفي غزو الفضاء، كما فعلت الإمارات حين أطلقت "مسبار الأمل" لتقول إن هذه المنطقة قادرة على الإسهام لا أن تبقى رهينة خطاب القرية والقبيلة، وكما قال الحسن الثاني: «من لا يملك قوته، لا يملك قراره»، فإذا كان براك قد قال إن السلام مجرد وهم، فإن على العرب أن يثبتوا أن السلام والدولة ليسا وهماً، بل قدراً يصنعونه بأيديهم وإرثاً يضيفونه إلى حضارة عرفها العالم منذ فجر التاريخ.
من أقوال الراحل مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ: «إن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يقوم إلا على العلم والمعرفة، وبغيرهما لا تكون هناك تنمية أو تقدم»، العلم والمعرفة أدوات أخذ بها الرجل البدوي فصنع معجزة عابرة للحدود، وقد تكون هادلي غامبل قد انتزعت من توم براك كلمات ثقيلة وفجّة، لكنها لا يجب أن تكون مدعاة للغضب بقدر ما يجب أن تكون استيعاباً لواقع بعض الغرب ونظرته إلينا، وفهماً أعمق لما ينقصنا كي نكمل مشروع الدولة الوطنية.
التاريخ لا يرحم المتقاعسين، وحين كتب ابن خلدون في مقدمته أن «الملك لا يقوم إلا بالعصبية والدعوة الدينية» كان يصف حالة المجتمعات التي لم تنضج بعد لمفهوم الدولة، بعد ستة قرون، لا يليق بالعرب أن يظلوا أسرى لهذه الدائرة المغلقة، إن الرد على براك وأمثاله لا يكون بالبيانات الغاضبة ولا بالشجب، بل بإرادة سياسية تعيد الاعتبار لمفهوم الدولة، وبتجارب إصلاحية تخرج من رحم الفوضى.
قد يرى براك أن الشرق الأوسط قبائل وقرى، لكن بإمكان العرب أن يثبتوا أن هذه القبائل نفسها هي التي صنعت حضارات نهرية وبحرية امتدت من الفرات إلى النيل، وأنها القادرة ـ، متى تحررت من الاستبداد والتبعية، على أن تعيد كتابة فصل جديد من التاريخ، السلام ليس وهماً، والدولة ليست أسطورة، وإنما هما مشروعان لا يتحققان إلا إذا اجتمع العرب على ما يجمعهم وتجاوزوا ما يفرّقهم.
فالمستقبل، كما قال الشيخ زايد، «رهان على الإنسان أولاً»، والإنسان العربي إذا ما وُضع في بيئة العلم والعدل والمعرفة، يستطيع أن يرد على براك وهايدلي غامبل ليس بالكلمات، بل بالمنجزات، ويثبت أن الشرق الأوسط ليس خريطة مصطنعة، بل قلب الحضارة وموئلها منذ فجر التاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة