لم يكن خطابُ كامل إدريس، رئيسِ وزراء سلطة بورتسودان، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سوى كِذبةٍ سافرة فاضحة، لا يلتبس زيفُها على بصير، لم تُوارِ سوأتَها زخرفةُ لفظٍ، ولم يَخْفَ عوارُها تَصنُّعُ النطق ولا فذلكةُ البيان.
لقد كان خطابه كتلةً من الأكاذيب والخداع، يُجسِّد سرديّة الإخوان وعسكرهم، ويُعادي الصدقَ كما يُعادي الليلُ وجهَ الفجر.
ابتدر الرجلُ كلمتَه واثقًا من زيفه، إذ قدّم نفسَه بوصفه رئيسًا لسلطةٍ "مدنيةٍ مستقلة"، في حين لا يحتاج السودانيون ولا المجتمع الدولي إلى كبير عناءٍ لاكتشاف خُطل حديثه. فالوثيقةُ التي جاءت به كافيةٌ وحدها لفضح ادعائه، إذ وضعت السلطاتَ كلَّها في يد ما يُسمّى "مجلس السيادة"، ذلك المجلس العسكري الذي لم يُنشأ إلّا ليُضلِّل الداخلَ والخارج، وليُعيد الإخوانَ إلى صدارة الحكم بغطاءٍ مدنيٍّ زائف، مموَّهٍ بأزياء العسكر الصارخة!
ثم تمادى الرجلُ في غيِّه، فوصف سلطتَه المعزولة بأنها حكومة "تكنوقراط"، وكأنّ التكنوقراطية صارت تعني خليطًا من كوادر الإخوان وشركائهم من حركات الارتزاق المسلحة! فأين هي الكفاءة المهنية أو النزاهة الأخلاقية في حكومةٍ أُقيمت على ركام الولاء العقدي والعسكري، لا على دعائم الكفاءة والتخصّص؟ إن حادثةَ وزير الثروة الحيوانية، الذي أُقصي ثم فُرض عليه من (علٍ)، بطريقةٍ أقلُّ ما يُقال عنها إنّها مهينة، دليلٌ قاطع يفضح أنّ الرجل لا يملك من أمر حكومته شيئًا، فضلًا عن ادعائه اختيار وزرائه بمعايير صارمة من الكفاءة والخبرة!
وفي معرض حديثه عن الحلّ السياسي للأزمة، حاول إدريس أن يُكسو سلطةَ الكيزان الانقلابية أثوابَ المشروعيّة، فادّعى التزامَ حكومته بخارطةٍ وضعتها قوى وطنيّة ومدنيّة. غير أنّ الحقيقة الجليّة أنّها ليست إلا خارطةَ (طريق البرهان) ورفاقه من الكيزان، لإعادة الحركة الإسلاميّة إلى سُدّة الحكم على خريطة السودان الممزّق.
ثم أيُّ قوى سياسية وطنية هذه التي يُزعم وجودُها في بورتسودان، حيث لا صوت يعلو على صوت العسكر، ولا سياسة تُقال إلّا ما يُمليه الإخوان الكيزان؟!
ولم يقف الخداع عند هذا الحدّ؛ ففي خطابٍ بدا وكأنّه موجَّهٌ إلى جمهورٍ يجهل حقيقة ما يجري في السودان، ادّعى إدريس أنّ حكومته سهَّلت عودة السودانيين من الخارج. والحقيقة أنّ النشطاء والسياسيين، وفي مقدّمتهم أعضاءٌ في تحالف رئيس الوزراء الشرعي الدكتور عبد الله حمدوك، ما زالوا محرومين من أبسط حقوقهم في تجديد جوازات سفرهم، وبعضهم محاصرٌ في المنافي، بينما أبناء غرب السودان يُعاقَبون في الداخل والخارج بهويّتهم وجغرافيّتهم، ويُنعَتون افتراءً وتحقيرًا بـ”حواضن الدعم السريع”.
إنها أبشعُ صور الفرز العنصري، ترفع لافتةَ الوطن والكرامة فيما تُمارس أقسى أشكال التمييز والاضطهاد!
أمّا الطامّةُ الكبرى، فهي أنّ رئيس وزراء سلطة الأمر الواقع، الذي جلس بين قادة العالم متبجّحًا بـ”التزام” حكومته، قد تجاهل تمامًا الكارثةَ الإنسانيّة التي تعصف ببلده، تلك التي صُنِّفت كأعظم مأساة إنسانيّة في العصر الحديث.
لم يأتِ على ذكر الكوليرا المتفشّية، ولا المجاعات التي تحصد الأرواح، ولا الأسلحة الكيماويّة الفتّاكة التي أطلقها الجيش وكتائب الإسلاميين على المدنيّين، ولا الأطفال الذين يختطفهم الموت جوعًا ومرضًا في مشاهد ينفطر لها قلبَ الحجر. لقد بدا وكأنّه يخاطب الجمع عن كوكبٍ آخر، غير ذاك السودان الذي يتهاوى أمام أعيننا وأعين العالم قطعةً قطعة. فأيُّ جفافٍ إنسانيّ هذا؟
في الختام، فإنّ خطابَ رئيس وزراء سلطة بورتسودان في الأمم المتحدة، الذي وقف على منصّتِها بحكم وضع اليد وتقليدِ الأمر الواقع، لم يكن سوى صدىً لصوت العسكر، ولسانًا يتلو مزامير الإخوان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة