في خضم حرب غزة الحالية، لم تكن المعركة عسكرية فحسب، بل برزت جبهة أخرى لا تقل شراسة: جبهة الإعلام الاجتماعي.
فقد قلبت هذه المنصات آليات السرد التقليدي، وأخرجتها من المسار المتحكم به عبر الحكومات والمؤسسات الإعلامية الكبرى، لتضع زمام التأثير بيد الأفراد وصوت الشارع.
ما يحدث اليوم هو ثورة في طريقة صياغة الرواية. لم تعد البيانات الرسمية ولا المؤتمرات الصحفية المصدر الوحيد للخبر. مقطع مصوّر لطفل يبحث عن الماء أو رسالة قصيرة من صحفية ميدانية باتت تهز وجدان الملايين أكثر مما تفعل تقارير القنوات الكبرى. الإعلام الشعبوي – بمحتواه الإنساني المباشر والبسيط – قاد الرأي العام العالمي وأجبر المنصات الكبرى والحكومات على التفاعل، بعد أن فرض نفسه كحقيقة لا يمكن تجاوزها.
المعادلة التي عرفناها لعقود انكسرت: فبينما كانت إسرائيل تراهن على نفوذها في المؤسسات الإعلامية التقليدية ، نجحت الرواية الشعبية القادمة من غزة في كسب تعاطف الشارع العالمي. هذا الانقلاب كشف أن السرد لم يعد يُدار من أعلى إلى أسفل، بل العكس؛ من قصص الناس العاديين إلى عواصم القرار.
غير أن هذا التحول يطرح درسًا استراتيجيًا بالغ الأهمية للدول. تجاهل الإعلام الاجتماعي أو التعامل معه باعتباره مجرد هامش يمكن حجبه أو ضبطه هو رهان خاسر. الحجب الفردي للأكاذيب أو الافتراءات قد يضاعف انتشارها، بينما غياب الرواية المضادة يترك الساحة مفتوحة أمام خصوم أكثر تنظيمًا. في المقابل، الدول التي تستثمر في بناء خطاب رقمي صادق وإنساني، وتدعم مؤثريها وصحفييها، وتستعين بأدوات الذكاء الاصطناعي للرصد والتحليل، ستكون أقدر على حماية صورتها وتحصين سمعتها.
إن ما كشفته حرب غزة أن الإعلام الشعبوي بات يقود السرد العلمي والمعرفي في المرحلة القادمة. فالمعلومة الأكثر تأثيرًا ليست الأكثر تفصيلاً أو توثيقًا، بل الأكثر إنسانية وقربًا من مشاعر الجمهور. لذلك، إهمال هذه الجبهة لن يكون مجرد خسارة إعلامية، بل انقلابًا كاملًا في موازين القوة الناعمة لأي دولة.
لقد دخلنا عصرًا جديدًا؛ من لا يملك فيه أدوات التأثير الرقمي، لن يملك روايته، ومن يتجاهل قوة الإعلام الاجتماعي، سيجد الطاولة وقد قُلبت عليه بالكامل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة