يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي اليوم باعتباره أحد أهم الأدوات القادرة على إعادة تشكيل التعليم العالي في العقود المقبلة.
فالذكاء الاصطناعي يعد بفتح آفاق جديدة للتعلم الشخصي، وتوسيع المشاركة، وتقديم أدوات أكثر دقة لتوجيه الطلاب نحو مساراتهم الأكاديمية والمهنية. غير أن هذا الوعد يحمل في طياته مخاطر حقيقية إذا لم يُواكب بسياسات واضحة واستثمارات عادلة. فبدل أن يكون وسيلة لتحقيق المساواة، قد يتحول إلى قوة مضاعفة للتفاوتات القائمة بين الجامعات والطلاب والمجتمعات.
أحد أبرز جوانب الوعد الإيجابي يتمثل في قدرة الذكاء الاصطناعي على توفير تعليم أكثر تخصيصًا. إذ يمكن للأدوات الذكية أن ترصد نقاط ضعف الطالب واهتماماته، فتقدّم له مسارات تعلم تناسب حاجاته الخاصة. هذا النمط من التوجيه يقلل معدلات الإخفاق والانقطاع، ويمنح فرصًا أكبر للطلاب القادمين من بيئات أقل حظًا. كما يسهم في الحد من بعض التحيزات التقليدية المرتبطة بالنوع الاجتماعي أو الطبقة أو الجغرافيا، من خلال إتاحة فرص متكافئة للوصول إلى المعرفة والأدوات الحديثة.
لكن هذه الصورة الوردية تخفي في المقابل وجهًا آخر أكثر تعقيدًا. فالتقنيات المتقدمة ليست متاحة للجميع بالقدر ذاته. الجامعات الغنية، بفضل مواردها المالية والتقنية، تستطيع الاستثمار في أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة في التدريس والتقييم والإرشاد الأكاديمي، بينما تكتفي الجامعات الأصغر باستخدامات محدودة أو مبادرات فردية غير مستدامة. النتيجة هي نظام جامعي غير متكافئ، يتمتع فيه بعض الطلاب ببيئات تعليمية ذكية متكاملة، بينما يُحرم آخرون من هذه الفرص، فيتكرس التفاوت بدل تقليصه.
التفاوت يمتد أيضًا إلى داخل الجامعة نفسها. فطلاب يمتلكون مهارات رقمية متقدمة أو إمكانات مادية تتيح لهم الوصول إلى أجهزة متطورة وإنترنت سريع، يكونون أكثر قدرة على الاستفادة من الأدوات الذكية مقارنة بزملائهم الأقل حظًا. وهكذا تتحول الفجوة الرقمية إلى فجوة معرفية تعمّق الانقسامات الطبقية والثقافية بين الطلاب، بدل أن تسهم في إذابتها.
ومن التحديات الإضافية غياب التدريب المنهجي. كثير من الأساتذة والطلاب يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي من دون تكوين كافٍ، ما يجعل الاستفادة الفعلية منها مقتصرة على من يملك مهارات ذاتية بالتجريب. في المقابل، يبقى آخرون على الهامش، فيتحول الذكاء الاصطناعي إلى امتياز لفئة محددة بدل أن يكون أداة شاملة للجميع. كما أن الخوارزميات نفسها ليست محايدة دائمًا، فهي تعكس التحيزات الكامنة في البيانات التي تُدرَّب عليها، ما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج التمييز ضد فئات مهمشة بصورة غير مرئية.
ورغم هذه المخاطر، فإن الإمكانات الإيجابية تبقى كبيرة إذا جرى توظيف الذكاء الاصطناعي بسياسات مدروسة. يمكن للجامعات توفير بنى تحتية مشتركة مثل مختبرات رقمية أو منصات مفتوحة المصدر، وتنظيم برامج تدريبية شاملة للأساتذة والطلاب ليصبح استخدام الذكاء الاصطناعي جزءًا من المهارات الأساسية للجميع. كما ينبغي بناء أطر تنظيمية تضمن الشفافية والمساءلة في تصميم الخوارزميات، حتى لا تميّز بين الطلاب على أساس خلفياتهم.
الأهم أن يُوجَّه إدماج الذكاء الاصطناعي نحو تعزيز العدالة التعليمية لا فقط رفع الكفاءة أو خفض التكاليف. فالمساواة هنا قضية سياسية وأخلاقية تتطلب قرارات جريئة واستثمارات طويلة المدى. في النهاية، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يشبه مرآة تعكس تناقضات المجتمع: إذا كانت الفوارق عميقة، فستتعاظم بواسطته، وإذا وُضعت سياسات واعية، فإنه قد يتحول إلى أداة قوية لبناء عدالة معرفية جديدة. الجامعات هي الفاعل الرئيس في رسم هذا المستقبل، وهي مطالَبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تجعل التقنية وسيلة لتحقيق المساواة لا لتكريس اللامساواة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة