لحظات نادرة يتقاطع فيها ضغط الواقع مع جرأة السياسة. خطة الرئيس دونالد ترامب لوقف حرب غزة وإطلاق مسار «اليوم التالي» تعتبر أول اصطفاف أمريكي–عربي واسع على إطار عملي يوقف النزف ويعيد تعريف الأدوار.
وقبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالخطة من حيث المبدأ، والبيانات العربية والإسلامية المرحِّبة، يصنعان نافذة هي الأكثر جدية منذ عامين لإنهاء الحرب.
تقترح الخطة وقفًا فوريًا لإطلاق النار، وتبادل الرهائن والأسرى، وانسحابًا إسرائيليًا مرحليًا مشروطًا بتقدّم نزع سلاح حماس مع طوق أمني مؤقت. وتُدار غزة انتقاليًا عبر هيئة دولية باسم «مجلس السلام» برئاسة ترامب، ستعمل على تشكيل حكومة في غزة، وإدارة تمويل التنمية حتى إكمال السلطة الفلسطينية الإصلاحات، مع قوة استقرار دولية، إلى جانب فتح الممرات الإنسانية، ومسار اقتصادي لإعادة الإعمار. ليس حلًّا نهائيًا للنزاع، لكنه إطار يبدّل قواعد اللعبة.
التحوّل الأكبر جاء من الدبلوماسية الخليجية والعربية المنسّقة. ضغطت الإمارات والسعودية ومصر وقطر والأردن لفرض ثلاثية لا لبس فيها: لا ضم للضفة، لا تهجير للفلسطينيين، ولا نسف لأساس حل الدولتين.
الإمارات تحديدًا نقلت لنتنياهو، عبر تصريحاتها التحذيرية بشأن الضم أو عبر لقائه مع الشيخ عبدالله بن زايد في نيويورك، أن أي مسار للتطبيع أو توسيعه يمرّ بقبول الخطة ووقف إجراءات الضم، وبفتح الممرات الإنسانية بلا عوائق شكّل بشكل واضح الخط الأحمر الإماراتي. بيان ثمانية وزراء خارجية عرب ومسلمين داعم للخطة، يعكس كتلة إسناد سياسية لا يمكن تجاهلها.
على الضفة الإسرائيلية تتبدى مفارقة لافتة؛ إذ يُظهر استطلاع أن 71% يؤيدون الخطة مع شكوك واسعة بفرص تنفيذها. ويواجه نتنياهو معارضة صلبة من اليمين المتطرف (سموتريتش وبن غفير) الرافض لأي مسار يتضمن انسحابًا، أو دورًا لاحقًا للسلطة الفلسطينية، أو أفقًا ولو مشروطًا لحل الدولتين. القبول يهدد ائتلافه، والرفض يعمّق عزلة إسرائيل الدولية ويطيل أمد الحرب. لذا يحاول نتنياهو المشي على الحبل عبر مباركة عامة للخطة مع مناورة في التفاصيل.
أما حماس فالمعادلة أكثر قسوة. خطة ترامب تعني عمليًا تفكيك سلطة الحركة في غزة ونزع قدراتها الصاروخية والأنفاق والبنية التصنيعية وخروجها من مستقبل الحكم. التسريبات المتباينة تؤكد ضغوط قطر ومصر وتركيا على حماس لقبول “الإطار”، مقابل تردد قيادات عسكرية ترى في تسليم السلاح انتهاءً لوظيفية الحركة. رفض الخطة يحمّل الحركة كلفة سياسية وإنسانية أثقل بكثير مما وصلت إليه، والقبول يطيح بروافعها التنظيمية ويخرجها من المشهد بشكل كامل. إنها لحظة اختبار إرادة حقيقية أمام شعارات حماس الكلاسيكية، والمعروفة نتائجها الكارثية على شعب غزة.
يحاول نتنياهو إجراء تعديلات تربط الانسحاب بمراحل نزع السلاح وتمنح إسرائيل حقّ “الفيتو” العملي على وتيرة التقدم، مع بقاء أمن محيط القطاع حتى زوال التهديد. ما قد يشكّل غموضًا في الجدولة وتضاربًا محتملًا بين متطلبات الأمن وأفق الحكم الفلسطيني. ورغم ذلك، نجحت الدبلوماسية الخليجية–العربية في انتزاع ضمانات: لا ضم، ولا تهجير، ولا احتلال دائم.
المقاربة الإماراتية واقعية وإنسانية بلا ضجيج. أبوظبي ربطت أي تقدّم سياسي بمجرى مساعدات بلا قيود، وبإجراءات ملموسة تعيد الكهرباء والمياه والخبز والمستشفيات للعمل، وتحوّل وقف النار إلى حياة يومية قابلة للعيش. كما دفعت، مع الرياض والقاهرة والدوحة وعمّان، نحو مأسسة الضمانات عبر قوة استقرار بغطاء دولي/إقليمي، تمويل إعادة الإعمار، ومسار إصلاحي يعيد للسلطة الفلسطينية قابليتها للحكم. هي أدوات ضبط الإيقاع كي لا تعود غزة إلى مربع الفوضى.
الرأي العام الإسرائيلي عنصر حاسم. دعمٌ شعبي لوقف الحرب واستعادة الرهائن، يقابله تآكل في جاذبية سردية “حرب بلا نهاية”. الخطة تمنح الإسرائيليين “سلم نزول عن الشجرة” من دون اعترافٍ لفظي بدولة فورية، لكنها تضع القطار على سكة مسار سياسي لا مفرّ من ملاقاته لاحقًا. وقد يُضطر نتنياهو إلى خيار مواجهة متطرفيه والاحتماء بمعارضة وسطية تقبل الخطة، أو مجازفة بالعزلة الدولية وتبعاتها الاقتصادية والأمنية.
خطة ترامب ليست مثالية، لكنها الإطار الواقعي الوحيد المطروح اليوم بغطاء أمريكي–عربي–إسلامي واسع، وقد نجحت في إعادة تعريف الممكن ومنع أسوأ السيناريوهات. والمهم تحويل النص إلى حياة. في السياسة كما في البحر، لا نغيّر الريح؛ بل نُحسن تعديل الأشرعة. هذه اللحظة تتطلب ذلك بالضبط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة