في صباح اليوم الأول من رئاسة جو بايدن تغيرت أمريكا تماماً، وعاد الهدوء إلى أرجاء واشنطن.
بعد أن كاد دونالد ترامب يُشعل شوارعها وكابيتولها بضجيج أنصاره المتطرفين. بايدن يعمل بهدوء على تمزيق إرث ترامب بضربات قاصمة، ويظهر الإمكانات الهائلة لإدارته في تحويل اتجاه بوصلة الأمة الأمريكية، فهو سياسي مُحنك، وشهد عهود تسعة رؤساء منذ مجيئه إلى واشنطن، وسرعان ما أصبح قائد السفينة المتأرجحة وسط الرياح والعواصف بعد ساعات على أداء اليمين الدستورية، مروراً بالصلاة في الكنيسة إلى زيارة مقبرة أرلينجتون الوطنية مع ثلاثة رؤساء سابقين، أرسل رسالة واضحة: أمريكا تدور الآن في فلك جديد.
يستهدف بايدن إرث ترامب بإجراءات تنفيذية منذ اليوم الأول، بدءاً من إحناء رأسه في صلاة صامتة إحياءً لذكرى ضحايا الوباء خلال خطابه وارتدائه الكمامة طيلة النهار، مظهراً احتراماً للإمكانات الخطيرة لفيروس كورونا، على عكس ترامب الذي كان يستهزئ بهذا الوباء بسخرية لاذعة، مما جعل نسبة المصابين به تصل إلى مستوى ربع المصابين في العالم بقدر أو أكثر من ضحايا أمريكا في الحرب العالمية الثانية، كما أشار بايدن.
بفضل الملفات الساخنة والأوامر التنفيذية على مكتبه البيضاوي تعود الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وتنهي حظر السفر من بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، وقطع التمويل عن الجدار الحدودي مع المكسيك، وضعت الولايات المتحدة على طريق آخر في علاقاتها مع العالم التي شهدت توتراً عالياً.
توقيعات بايدن السريعة أرسلت إشارة واضحة بأن أمريكا كما عرفها حلفاؤها لعقود من الزمن قد عادت إلى وعيها، كان من السهل أن يستولي ترامب على السلطة التنفيذية، ويصبح رئيساً قويًّا في نظر أنصاره، إلا أن استمرارية الانتصارات التشريعية لم تكن من اهتماماته.
أسهمت قوة شخصية بايدن على التأثير في السياسيين، وجعلهم يبذلون قصارى جهودهم ليكونوا مهذبين لبعضهم بعضا، ممتثلين لدعوة بايدن إلى إنهاء "الحرب غير الحضارية" التي سادت في عهد ترامب، وتذكر السيناتور الجمهوري روي بلانت من ولاية ميسوري كيف غنّى الرئيس السابق باراك أوباما أغنية Amazing Grace لجودي كولينز 1970 في حفل تأبين مذبحة ساوث كارولينا، ومن التراجيديا انتقلوا إلى الكوميديا حتى إن قادة الكونجرس تبادلوا النكات فيما بينهم، ولم يكن هناك أي تملق أمام القائد العام الذي كانت تفرضه شخصية ترامب الهشة؛ إذ فرض بايدن احترامه على الجميع من خلال توجيه خطابات هادئة ومدروسة بدلاً من التغريدات الهائجة والمونولوجات المتناثرة، مقنعاً الشعب الأمريكي بالارتقاء إلى القيم الأساسية لبلدهم من خلال احترامهم لمؤسسة الرئاسة نفسها.
من نواحٍ كثيرة، أعاد الرئيس السادس والأربعون واشنطن إلى وضعها الطبيعي القديم، برفقة كامالا هاريس، أول امرأة سوداء وأول نائبة للرئيس بايدن تؤدي اليمين، لتعلن مرة أخرى أن العاصمة لم تعد في أيدي مؤسستها القديمة.
كان الشعر حاضراً في حفل التنصيب، قبل ستين عاماً تلا روبرت فروست قصيدة قديمة في حفل تنصيب الرئيس الشاب جون كينيدي آنذاك، وبمناسبة تنصيب بايدن ألقت شاعرة شابة سوداء، 23 عاماً، تُدعى أماندا جورمان قصيدة تميزت بقوة خطابية مذهلة من أجل مباركة أداء اليمين الدستورية، حيث عكس مظهرها الأخلاق المتغيرة في البيت الأبيض، وعرض ثقافة لا تهتم لحسابات العرق والجنس والأصول، على عكس ما كان يتفاخر به ترامب بالعرق الأبيض، والنعرة القومية، بينما تظهر الصين في الشرق كقوة جديدة تتحدى الهيمنة الأمريكية.
خيّم صمت مخيف على موكب بايدن في أثناء توجهه إلى البيت الأبيض عبر الشوارع الخالية، بمثابة تذكير بالشبكة الأمنية التي فرضت على واشنطن حادثة الكونجرس، ولن تنسى ذاكرة أمريكا ذلك الهجوم البربري أبداً.
هل الحديث عن وحدة الشعب الأمريكي ضرباً من الخيال؟ وهل القوى التي تفرّق أمريكا معقدة ومتشابكة في الوقت الحاضر؟
إن الانقسامات القومية العميقة منذ الحرب الأهلية تتجه في اتجاهين منفصلين ثقافيًّا وعرقيًّا واجتماعيًّا؛ حيث يسعى بايدن إلى معالجة ذلك الشرخ من خلال "فتح الأرواح بدلاً من قساوة القلوب من خلال التسامح والتواضع" حسب تعبيره، إلا أن محاكمة مجلس الشيوخ وعزل الرئيس السابق ترامب ستعيد فتح الجراح القديمة من جديد.
ويعود ذلك إلى أن حديث بايدن الصريح يشكل انفصالاً ملحوظاً آخر عن نهج سلفه في قضايا متعددة، منها نفيه كون وباء كورونا مشكلة، وتوقع أنه سيختفي بأعجوبة، فيما الخطة التي اقترحها بايدن -الإخفاء والتباعد الاجتماعي- تشكل دفعة جديدة لتسريع طرح اللقاح البطيء بشكل كارثي، وهذه الخطوات ستتطلب جهوداً مركزة من قبل دولة موحدة؛ وهي استعارة بمعنى ما، عن فلسفته بالكامل ونهجه في الحكم.
وفي الوقت نفسه، تُثار قضايا عديدة، يشترك فيها كلّ من ترامب وبايدن على أنهما يقاتلان من أجل "روح" أمريكا.. ماذا يعني ذلك؟
أصبحت الانتخابات استفتاء على روح الأمة، عبارة طالما تذرع بها القادة الديمقراطيون والجمهوريون، وهم يقصدون بها "معركة من أجل روح أمريكا" كما جاء في حملة بايدن، وبعد الاشتباكات بين أنصار ترامب مع رجال الشرطة ظهرت عبارة "أنقذوا روح أمريكا"، حتى أصبح التصويت في الانتخابات انعكاساً على أخلاق الفرد، ونتائجها تتوقف على الأسئلة الروحية والفلسفية التي تتجاوز السياسة إلى روح الأمة، وهكذا تجاوزت الإجابات شعار الحملة، إلى ما وراء السياسة، إلى هوية التجربة الأمريكية ومستقبلها، خاصة مع جائحة كورونا التي أنهكت هذا البلد.
هل أوصل ترامب أمريكا إلى طريق مسدود عميق، وهي في حاجة إلى وقت طويل لكي يندمل؟
هذا الجرح أجبر الجميع على النظر إلى دواخل نفوسهم وبعضهم بعضا. أدرك بايدن أن الأمريكيين أمة مسيحية، فقد تأثر الآباء المؤسسون بالقيم التوراتية وسط غضب الناس وإحباطهم، وهم يبحثون عن قادة يهتمون بمشاكلهم الجوهرية العاجلة بعيداً عن النظريات.
لذلك ترافقت تأطير الحملات مع الواجب الأخلاقي -إضافة إلى اللغة المتجذرة في المسيحية- وقد لعب على ذلك الجمهوريون أيضاً لعقود عديدة، لكن الديمقراطيين اعتادوا على جذب خطوة تحالفٍ ديني أكثر تنوعا.
هكذا طغى المفهوم الفلسفي واللاهوتي القديم، وهي واحدة من أعمق الطرق التي يفهم بها البشر هويتهم الفردية وحياتهم معاً، لقد رأى الشاعر هوميروس أن الروح هي الشيء الذي يخاطر به البشر في المعركة، أو الشيء الذي يميز الحياة عن الموت، كتب أفلاطون عن سقراط وهو يستكشف العلاقة بين الروح والجمهورية في خلق فضيلة العدالة، أما بالنسبة للقديس أوغسطينوس، الذي كتب "مدينة الله"، يمكن الحكم على المدينة بما تحب، فالحديث عن الروح مجاز قديم يكشف شيئاً عن الحوار السياسي الحالي، أي في وقت الأزمات والتغيير وانتشار الوباء.
ما هي الأولوية في هذا الصراع: الهوية أم الاقتصاد بالنسبة للأمريكيين؟
كانت الهوية عاملاً حاسماً في نجاح ترامب في انتخابات 2016؛ حيث لم تكن أمريكا بهذا الاستقطاب منذ القرن التاسع عشر.
والسؤال المطروح هو:
لماذا أصبحت الهوية عاملاً مهماً في الانتخابات الأمريكية؟
الديمقراطيون والجمهوريون لعبوا على الهوية، وإن كان ذلك بأسماء مختلفة. لكن وصفة بايدن الاقتصادية سوف تتجاوز الهوية في الوقت الراهن العصيب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة