هل يتوَجّب على الأمريكيّين في هذه الأيّام المثيرة للجدل والشغب العقليّ والحسيّ معًا مراجعة أوراق المُفكِّر فرانسيس فوكاياما؟
أغلب الظنّ أنّ مرَدّ المراجعة غيرُ موصول بإشكاليّة نهاية التاريخ أو النموذج الرأسماليّ الذي تَحَدَّث عنه في رؤيته الشموليّة قبل نحو عقد ونصف من الزمان تقريبًا، وقد عَدَلَ عنه بعدما أيقن من مصادرته لحركة التاريخ على هذا النحو.
مراجعة المُفكِّر الأمريكيّ الجنسيّة اليابانيّ الأصل فوكاياما هذه المَرّة على علاقة جذريّة برؤيته الأخيرة لما يحدث في الداخل الأمريكيّ من صراعات ديموغرافيّة وعرقية، تلك التي ضَمَّنَها مؤلَّفَه الصادر قبل نحو عامين، الذي عنوانه "الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء". وقد بدا فيه كزرقاء اليمامة، متنبّئًا بما ستشهده الولايات المتّحدة الأمريكيّة من أزمات داخليّة مثيرة ومريرة.
منذ الصيف الماضي وعلى هامش مقتل الفتى الأمريكيّ الأفريقيّ الأصل جورج فلويد، والجميع يتساءل: ما الذي يحدث في الداخل الأمريكيّ؟ وهل نحن أمام عَرَض أم مرض عميق ضَرَبَ بجذوره في عمق المجتمع الأمريكيّ، ويكاد يُعيد سيرة أمريكا في ستّينيّات القرن الماضي، وزمن حركة الحقوق المدنيّة، وصراع السود مع الرجل الأبيض للإقرار بحقوقهم التاريخيّة.
والشاهد أنّ الأمر تجاوز قصّة صراع السُّود مع البيض، وقد وقف العالم برُمَّته، وملايين الأمريكيّين في المقدِّمة منهم مُندهِشِينّ غير مُصَدِّقين ما جرى نهارَ السادس من يناير الماضي، وفيما اصطلح البعضُ على تسميته بِـ"غزوة الكونجرس"، لا سِيّما أنّ الآلاف التي تدفّقتْ على "محراب الديمقراطيّة" الأمريكيّة، كانوا من "الواسب"، أي الأمريكيّون البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت، ما خَلَّفَ تساؤلاً عميقًا وخطيرًا: ما الذي جرى؟ وهل نحن أمام انقسام مجتمعيٍّ خطير يُنذِر بما هو أسوأ؟
الثابت أنّه وقبل السادس من يناير بكثير جدًّا، يتناول الأمريكيّون شأن الجماعات اليمينيّة المتطرّفة، وبعضها يصل إلى حدِّ المطالبة بحُرّيّة أهليّة لتخليص أمريكا من الحكومة الفيدراليّة الحاليّة، فيما أصوات أخرى تُطالِب بالانفصال كما الحال في كاليفورنيا وتكساس، وغيرهما من الولايات ذات الناتج الإجماليّ الهائل.
ولعلّ خطورة هذه الجماعات الانفصاليّة أنّها تؤمن بالعنف المُسَلَّح من ناحية، وتتوافر لها الأسلحة المُتَقَدِّمة من جانب آخر، وقد رأينا في أثناء أزمة الإغلاق التي صاحبت الموجة الأولى من جائحة كوفيد-19 المستجَدّ، مظاهرات أمام عدد من كونجرس الولايات المختلفة لجماهير حاملة أسلحتها الآليّة، وكان السؤال المؤلم: هل يمكن أن يجتمع شملُ تلك الأصوات على دعوة واحدة، أو المطالبة بمطلب واحد، ووقتها تكون البلادُ قد دخلت في مأزق حقيقيّ وليس مُجَرَّد إشكاليّة.
في هذا السياق ينبغي التوقُّف عند محاولة إلقاء تَبِعة المشاهد اليمينيّة المُتطرِّفة الأخيرة برُمَّتِها على كاهل الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، وتحميله أعباء المشهد برُمَّتِه.
حتمًا قد يكون ترامب، ومن خلال نظرته الأحاديّة للأمور، وبوصفه رجلاً لا دَالَّة له على العمل السياسيّ، والذي يتطلّبُ النظرَ بعُمقٍ إلى أطياف من الألوان بين الأسود والأبيض، ولا يَتَوَقَّف عند المنطق الحدّيّ، قد ساهم في إذكاء الأزمة التي تعيشها أمريكا اليوم، غير أنّه لم يكن السبب الذي أدّى إلى نشوئها وارتقائها.
في عمله الفكريّ الأخير، يلفت فوكاياما النظرَ إلى عُمْق الإشكال المُقلِق لروح أمريكا مع بدايات رئاسة بايدن، وقد تكون حركةُ غزو الكونجرس مُجرَّدَ تموضُعٍ أوَّليّ لجماعات قد تُكَلِّف أمريكا في المدى الزمنيّ المتوسِّط خسائر لم تعرفها البلاد منذ زمن إبراهام لينكولن وحرب الولايات، مع الأخذ في عين الاعتبار الآليّات التواصليّة المختلفة، فاليوم يمكن لملايين الأمريكيّين الاتّفاق على ساعة مُحدَّدة للتظاهر سلميًّا كان أو عنيفًا من كاليفورنيا إلى نيويورك، ومن تكساس جنوبًا إلى واشنطن في أقصى الشَّمال وعلى الحدود مع كندا.
يُخبِرنا فوكاياما أنّ الخوف في الداخل الأمريكيّ كان سببًا رئيسًا في ظهور الحركات اليمينيّة المُتطرِّفة، لا سِيَّما في وسط الجماعات البيضاء، والتيارات الإنجيليّة المسيحيّة ذات الجذور الراديكاليّة بالمعنى الإيجابيّ وليس الأصوليّ السلبيّ، والتفرقة هنا لاهوتيّة.
تسكن تلك التّيّاراتُ غالبًا في الأرياف، أي أنّها تُمثِّل التخوم المهمّة على أطراف أمريكا، وبعيدًا عن المراكز الحضريّة حيث الصخب والجَلَبة والضوضاء، وهناك لا يزالون يؤمنون بقيم الأسر التقليديّة، وبهُوِيَّات أخرى ذات صلة بواقعهم المعاصر.
من خلال سطور فوكاياما، نعرف لماذا صَوَّتَ نحوُ 75 مليون أمريكيّ لترامب، ومن بينهم نسبة ليست قليلة من الأمريكيّين الأفارقة؛ فقد حَسَّنَ الرجلُ من أوضاعِهم، وغَيَّر الكثيرَ من طباعهم خلال السنوات الأربع التي قضاها رئيسًا للبلاد.
هؤلاء معظمهم من أبناء الطبقة العاملة التي تشعر بأنّ النخب الوطنيّة الأمريكيّة ورجالات "الإنتلجنسيا" على مستوى الدولة – الإمبراطوريّة قد هَمَّشتْهم ولم تَعُدْ تعيرهم انتباهًا.
يُدلِّل فوكاياما على ما يقوله بالسينما في هوليوود؛ فهي تُخرِج صنوفًا وألوانًا من الأفلام، لكنّها لا تهتمّ لشأن أناس مثلهم، وإذا تعاطت معهم فإنّها تفعل ذلك من باب السخرية.
هؤلاء الريفيّون يُشكِّلون العمود الفقريّ للحركات الشعبويّة في الولايات المُتَّحدة، كما هو دورهم في أوروبا، وتحديدًا في بريطانيا وهنغاريا وبولندا، وغيرها من الدول الأخرى.
من ناحية أخرى، تدعونا قراءةُ فوكاياما إلى البحث عن جواب لأزمة اليسار الأمريكيّ، وهل كان بدوره عاملاً مُحَفِّزًا على ظهور اليمين المُتشَدِّد على النحو الذي رأته أمريكا، وربّما ما سوف يُستَجَدّ في قريب الأيّام؟
نتذكّر أنّ الرئيس السابق ترامب لم ينفكّ يتشكّى من أفاعيل اليسار الأمريكيّ ودعواته المتعالية، وقد بات هناك تَيَّارٌ اشتراكيّ متشدِّدٌ يصل إلى حَدِّ التعصّب، فيما تقول بعض الروايات الاستخباريّة إنّ الصين تسعى جاهِدَةً في طريق تصدير نسق جديد من الشيوعيّة المتدثِّرة في ثوب اشتراكيٍّ إلى الداخل الأمريكيّ كجزء من أدوات الهجوم الأيديولوجيّ ضمن أُطُر الصراع القطبيّ بين بكين وواشنطن.
عند فوكاياما أنّ دعاة سياسات الهُوِيّة المنتمين إلى اليسار في أمريكا يجادلون بأنّ توكيدات التيّارات اليمينيّة وتوجُّهاتها غير شرعيّة، ولا يمكن وضعها على قدم المساواة الأخلاقيّة مع الأقلّيّات والنساء وباقي الجماعات المهمشة، كونها تعكس منظورات التّيّار السائد في الثقافة المهيمنة، وهو التّيّار المُفَضَّل تاريخيًّا.
هل اتّسَعَ الخرقُ على الراتق وباتت أمريكا بالفعل في أزمة هُوِيَّاتيّة بين من يؤمنون بفلسفة بوتقة الانصهار والجماعة الواحدة، وبين مَنْ يرفعون شعارات الهُوِيَّات المختلفة وفلسفة لوحة الفسيفساء؟
مهما يَكُنْ من أمر الجواب، فإنّ هناك واقعًا جديدًا قد تَخَلَّقَ في رَحِم أمريكا مع إدارة بايدن، فعلى سبيل المثال للمَرّة الأولى تشهد أمريكا والعالم نائبة رئيس خلاسيّة الأصل، والدتها هنديّة، ووالدها جاميكيّ، وقد أقسمتْ اليمين الدستوريّة عبر أوّل قاضية في المحكمة العليا من أصول أمريكيّة لاتينيّة.
واقع حال أمريكا السكانيّ تَغَيَّر، والرجل الأبيض لا يُشكِّل اليوم سوى 60% تقريبًا من تعداد السكان الإجماليّ، ما يعني أنّه خلال بضعة عقود سيضحي أحفاد "البيوريتانيّين" البيض المهاجرين من القارة الأوروبّيّة أقليّة وسط اللاتينيّين والأمريكيّين الأفارقة وغيرهم من جنسيّات العالم، فهل سيتقَبَّل بِيضُ أمريكا وسُكَّان تخومِها هذه النتيجةَ أم سيرفضونها؟
فوكاياما يرى في نهاية مُؤلَّفِه الشّيّق أنّ الهُوِيَّات يمكن استخدامُها في التفتيت والتقسيم، ويمكن أيضًا استخدامُها في الدمج والتوحيد، وهذا أفضل علاج للسياسات الشعبويّة في وقتنا الحاضر.
هل سيعلو صوت العقل والحكمة، الحضارة والديمقراطيّة، أم أنّ العودة إلى القَبَلِيّة الأولى والتعصُّب العِرْقيّ ستكون المعايير والمحدّدات لأمريكا المنقسِمة على ذاتها في أربع سنوات بايدن، ما يمكن أن يؤدّي إلى تحقيق العديد من التنبُّؤات الخاصّة بنهاية زمن الاتّحاد الأمريكيّ وبما يشابه تفكيك الاتّحاد السوفيتيّ بصورة أو بأخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة