ما حدث في الولايات المتحدة، ليس مفاجأة، فمن يتتبع الصعود القوي لليمين في أوروبا، يدرك التغير الواضح في مزاج الناخب الغربي عموماً.
من يتتبع مسيرة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، سيكتشف أن فوزه في الانتخابات لم يكن مفاجأة، ولم يكن صدمة، بل كان نتيجة طبيعية لحملة انتخابية راهنت على «إحياء الشعور القومي» ودغدغة تلك المشاعر التي تجعل الأوضاع الداخلية، ذات أولوية مقارنة بالأوضاع الخارجية التي ظلت الوقود الانتخابي لكل الحملات الانتخابية في سباق الرئاسات السابقة.
ما حدث في الولايات المتحدة، ليس مفاجأة، فمن يتتبع الصعود القوي لليمين في أوروبا، يدرك التغير الواضح في مزاج الناخب الغربي عموماً. فلم تعد القضايا الدولية، هي الهمّ الأساسي للناخب، بل صار هناك ميل واضح للنزعات القومية، وحتى لليمين المتطرف، الذي يُعلي من القضايا الداخلية، ويضعها في صدارة الأولويات. أراد الشعب الأمريكي، أن يكون ترامب الذي وصف بالمتطرف، و بغيرها من النعوت التي روجتها وسائل الإعلام لكسر شوكته، أن يكون هو الرئيس الخامس والأربعين والساكن الجديد للبيت الأبيض. وهذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها شخص يوصف بالمتطرف في أفكاره إلى سدة الحكم في أعتى الديمقراطيات الغربية.
هزيمة الديمقراطيين، لا تتحملها المرشحة هيلاري كلنتون وحدها، بل تتحملها إدارة البيت الأبيض الحالية، بقيادة أوباما، لأنها لو نجحت في تلبية مطالب الناخب الأمريكي، لتمّ التجديد للحزب الديمقراطي. الشعب الأمريكي أراد التغيير انطلاقاً من خطاب حماسي يمس الوجدان، ويصّعد النزعة القومية. ورغم البون الشاسع في الإنفاق على الحملتين الديمقراطية والجمهورية (800 مليون دولار لهيلاري مقابل 200 مليون دولار لترامب)، فإن آلة الدعاية لم تنجح في تغيير قرار الناخب الأمريكي، حتى و إن كان هذا القرار فيه من العنصرية والشوفينية الشيء الكثير. الشعوب الحرة هي التي تحدد اختياراتها، وتدافع عن مصالحها بأي طريقة، حتى وإن كانت هذه الطريقة تغضب أصحاب الأهواء والمزاجات المهتزة والضعيفة والتي تتعامل في السياسة بمنطق عاطفي.
على المستويين العربي والدولي هناك رابحون وخاسرون في معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. طبعاً لن يكون العرب هم الرابحون. المستفيدون من وصول الجمهوريين للبيت الأبيض، هم أولئك الأطراف التي تملك أوراق القوة اللازمة للانخراط في عالم جديد، لا مكان فيه للضعفاء. شعار ترامب الانتخابي، واضح هو إعادة القوة لأمريكا، وفي خطاب النصر، أعطى إشارات عن حلفاء المستقبل. وحلفاء المستقبل حسب خطاب ترامب هم أولئك المستعدون للعمل مع الولايات المتحدة، وطبعاً لن يكون في السياسة الخارجية الأمريكية مستقبلاً حضوراً قوياً إلا للحلفاء الذين يمثلون مصدر قوّة. روسيا قد تكون أكبر دولة مستفيدة من صعود ترامب، فقد وعدها في حملته الانتخابية برفع العقوبات عنها، وبزيادة التعاون والعمل المشترك معها. وهذا قد يغير قواعد اللعبة في المنطقة العربية، رأساً على عقب، وكذلك قد يؤثر بصفة واضحة على العلاقات الأمريكية الأوروبية من جهة وعلى العلاقات الروسية الأوروبية من جهة أخرى. فالتحالفات القديمة قد تنهار، لتصعد تحالفات جديدة، وربما ستكون هناك حرب حقيقية على الإرهاب تتعاون فيها روسيا والولايات المتحدة تعاوناً كبيراً. المستفيدون العرب هم بالأساس سوريا ومصر. فترامب وعد بالقضاء نهائياً على «داعش» والجماعات الإرهابية، وهذا قد يخدم الدولة السورية كثيراً.
على المستوى العربي، إن لم يبق الأمر على حاله، فلن يكون هناك تحسن واضح في العلاقات الأمريكية العربية فترامب تعهد في حملته الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، في تحد واضح للمشاعر العربية. وقد يكون هو الرئيس الأمريكي الذي يتجرأ على القيام بهذه الخطوة، بعد أن تراجع عنها الرؤساء السابقون. قانون جاستا المثير للجدل، قد يجد دفعاً سياسياً قوياً في عهد ترامب، وهو ما سيؤثر على علاقات الولايات المتحدة بالعديد من الحلفاء، ومنهم الدول العربية. لأن هذا القانون، لو وقع تطبيقه سيكون قانوناً ابتزازياً، هدفه الاستحواذ على مدخرات مهمة من الأموال في البنوك الأمريكية.
خلاصة هذه التجربة الانتخابية، التي يعتبرها كثيرون مفاجئة، هي في واقع الأمر، امتداد منطقي لحالات من التغير الاجتماعي والسيكولوجي، لا تمس الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل تمس جلّ المجتمعات الغربيّة. ففي أوروبا هناك أيضا تعبيرات يمينية متطرفة، وهي تتغذى من فشل الأحزاب التقليدية، يساراً ويميناً وسطاً، في تحقيق مطالب الشعوب. وهذه الأحزاب اليمينية التي تقودها في الغالب شخصيات، لا تعترف في تصريحاتها بالخطاب السياسي الكلاسيكي، وتعزف على أوتار القومية الشوفينية، وعلى عداء المهاجرين، وتستغل الوضع الاقتصادي المتردي، من أجل زيادة شعور الكراهية لشعوب دول العالم الثالث. علينا أن نتوجس خيفة من المشاريع الخفية للمحافظين الجدد، الذين عادوا ليحكموا قبضتهم على البيت الأبيض.
*نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة