ماتيس كان ينظر إلى خبرته ورجاحة عقله كأحد عوامل التوازن أمام رئيس لا يمكن التنبؤ بتصرفاته
طرح قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا علامات استفهام كثيرة حول دوافعه وأهدافه ومغزى توقتيه، كما أثار ردود أفعال كبيرة تراوحت ما بين آراء قليلة مؤيدة لهذا القرار وأخرى كثيرة معارضة له، وبين الفريقين المؤيد والمعارض هناك فريق ثالث آثر أن يتريث ليرى مدى جدية واشنطن في تنفيذ قرارها وإمكانية أن تتراجع عنه، وانعكاسات هذا القرار على أرض الواقع إذا تم تنفيذه.
دوافع المؤيدين وكذلك المعارضين لهذا القرار يمكن تفهمها وفقا لحساب المكسب والخسارة، وكذلك وفقا لموقعهم من الصراع السوري ومدى تأثير القرار الأمريكي على مواقعهم داخل خريطة النفوذ السورية.
المشكلة الحقيقية تتمثل في الرسائل السياسية السلبية التي أرسلتها واشنطن لحلفائها في المنطقة، ورسائل الطمأنة التي أرسلتها لخصومها من هذا القرار الذي بدا أنه انسحاب عشوائي أقرب لانسحاب المهزومين
المفارقة هنا أن النصيب الأكبر من ردود الفعل المعارضة لهذا القرار جاء من داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها أكثر من خارجها، والمعارضة هنا امتدت لتشمل المستويين السياسي والعسكري، كما تقاطعت خطوط رفض القرار لتمتد إلى جميع المؤسسات الأمريكية الفاعلة، سواء داخل الكونجرس بمجلسيه وحزبيه أو داخل البيت الأبيض أو داخل المؤسسة العسكرية، فقد كان واضحا من البداية أن قرار ترامب الانسحاب من سوريا لم يحظ بأي قدر من التوافق داخل الإدارة الأمريكية، ولم يحظ بدعم كبار رجال الكونجرس المؤثرين، ولم يخضع لأي تشاور أو تنسيق داخل المؤسسة العسكرية، ولم يعلم به القادة الميدانيون المسؤولون عن العمليات ضد تنظيم داعش إلا قبل موعد إعلانه بساعات، كما فاجأ بعض أركان الإدارة الأمريكية قبل أن يفاجئ حلفاء واشنطن، الأمر الذي عكسته الاستقالة المفاجئة لوزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، ومبعوث واشنطن للتحالف الدولي ضد داعش بريت ماكجورك من منصبهما، احتجاجا على هذا القرار، استقالة ماتيس تحديدا يجب التوقف عندها كثيرا، والوقوف جيدا على أسبابها ودوافعها ودلالاتها، والتمعن فيما تحمله من رسائل والالتفات إلى ما يمكن أن تتركه من أثر على مجمل أداء الإدارة الأمريكية، وعلى مستقبل علاقة واشنطن بحلفائها.
ماتيس كان ينظر إلى خبرته ورجاحة عقله كأحد عوامل التوازن أمام رئيس لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو بنفسه أخبر أصدقاءه ومساعديه مرارا خلال الأشهر الأخيرة بأنه يرى أن مسئوليته لحماية القوات الأمريكية البالغ عددها 1.3 مليون جندي تستحق التنازلات الضرورية التي يقوم بها كوزير لدفاع لرئيس متقلب، لكن مع ذلك يبدو أن قرار ترامب بسحب نحو 2200 من القوات الأمريكية من سوريا كان أكبر من قدرته على التحمل وأكبر من قدراته على التفهم، لذا وصف القرار بأنه "خطوة ذهبت إلى حد بعيد للغاية". ووفقا لنيويورك تايمز فإن ماتيس ذهب إلى البيت الأبيض يحمل خطابا مكتوبا باستقالته، لكنه قام بلا جدوى بمحاولة أخيرة لإقناع ترامب بالعدول عن قراره بشأن سوريا، وبعدما تم رفض مشورة ماتيس عاد الأخير إلى البنتاجون، وطلب من مساعديه طباعة 50 نسخة من خطاب استقالته وتوزيعها في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، وكتب ماتيس في الخطاب أن آراءه فيما يتعلق بمعاملة الحلفاء باحترام، وأيضا التعامل مع الأطراف الخبيثة والمنافسين الاستراتيجيين ظلت مقيدة بقوة، موجها كلامه للرئيس "لأن لك الحق في أن يكون لديك وزير دفاع لديه آراء متفقة بشكل أفضل مع آرائك حول هذه الموضوعات وغيرها.. أعتقد أنه من حقي أن أتنحى عن منصبي".
استقالة ماتيس أماطت اللثام عما يعتري المؤسسة العسكرية الأمريكية من خوف على مصير حلفاء واشنطن وعلى الالتزامات الأمريكية حيالهم، وعلى تداعيات هذا القرار على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وعلى الاستراتيجية الأمريكية إزاء إيران وعلى جهود مكافحة الإرهاب، فهناك اتفاق واسع داخل وسائل الإعلام الأمريكية أن أكبر المستفيدين من هذا القرار هم إيران وروسيا وتركيا وتنظيم داعش.
فعلى سبيل المثال رأت صحيفة "واشنطن بوست" أن سحب القوات الأمريكية من سوريا "حلم تحول إلى حقيقة بالنسبة إلى الإيرانيين"، وكيف لا وإيران دائما ما تقفز إلى موقع الصدارة لملء كل فراغ ينجم عن أي انسحاب أمريكي، فلا يمكن تفسير سيطرتها على المشهد العراقي حاليا إلا بكونه نتيجة مباشرة للانسحاب الأمريكي غير المدروس من هناك، وهو ما دفع الصحيفة إلى التأكيد على أن أحد أكبر الفائزين من قرار ترامب سيكون إيران التي تعمل الآن على توسيع نطاقها في الشرق الأوسط، مشيرة إلى أن سحب القوات سيفتح الباب أمام مزيد من التوسع الإيراني، متضمنا إنشاء ممر بري يمتد من طهران حتى البحر الأبيض المتوسط، والأهم من ذلك أن هذا القرار قد يشجع طهران على الاستخفاف بالتهديدات الأمريكية، وعلى تحدي العقوبات والضغوط الأمريكية عليها، ولعل هذا ما تجلى في إجراء الحرس الثوري الإيراني مناورات في الخليج أمس السبت، في نفس توقيت دخول حاملة الطائرات الأمريكية "جون ستينيس" إلى مياه الخليج لأول مرة منذ عام 2001.
أما عن تركيا، فإن القرار الأمريكي يمثل بالنسبة لها رسالة صريحة للاستمرار في معاركها في شمال سوريا، وفي ارتكاب المزيد من المذابح ضد الأكراد، وفي التسليم بنفوذ مستقبلي لها في تلك المنطقة، بعد أن اتسعت رقعة نفوذها شمالي سوريا على نحو غير مسبوق، منذ أن أطلقت أنقرة عملية درع الفرات في أغسطس 2016، ودخلت دباباتها للأراضي السورية لأول مرة، ومن وقتها لم تتوقف الأطماع التركية في السيطرة على المزيد من الأراضي السورية، بذريعة مواجهة الجماعات الكردية المسلحة، في محاولة لاستعادة ماضيها الاستعماري البغيض واستدعاء الحقبة العثمانية في سوريا، فلوحت مؤخرا بوجود وثائق تؤكد أحقيتها في بسط سيطرتها على 15 قرية بمحافظة إدلب المتاخمة للحدود التركية، لذلك دفعت بتعزيزات عسكرية لإنشاء نقاط مراقبة على الطريق الدولي الواصل بين إدلب والحدود السورية مع تركيا والحدود السورية مع الأردن، بعد أن اعتمدت على وثائق عثمانية مشابهة لتبرير سيطرتها على مدينتي جرابلس ومنبج في محافظة حلب، كما تذرعت بوجود مقابر تعود لقادة عثمانيين في مناطق أخرى شمالي سوريا، لبسط نفوذها.
أما عن روسيا، فيكفي للدلالة على مدى استفادتها من القرار الأمريكي الإشارة فقط إلى تصريح المتحدثة باسم وزارة خارجيتها التي وصفت القرار بأنه "سيؤدي إلى آفاق حقيقية وصادقة لتسوية سياسية في سوريا".
تنظيم داعش أيضا كان على رأس قائمة المستفيدين من هذا القرار، إذ لا توجد فرصة مواتية أكثر من ذلك لإعادة تنظيم ما تبقى من مقاتليه وتجنيد عناصر جديدة بين صفوفه، في ظل إحصائيات تقول إن التنظيم لا يزال يحتفظ بنحو 15 ألف مقاتل على الأراضي السورية، وفي ظل توقعات أن التنظيم سيلجأ إلى أساليب حرب العصابات ما إن يفقد كل أراضيه.
في النهاية يمكن القول إن المشكلة ليست في البعد العسكري للانسحاب الأمريكي من سوريا، فعدد القوات الأمريكية في سوريا ضئيل مقارنة بوجودها في أماكن أخرى، ولا تزال تحتفظ في العراق المجاور بضعف ما تريد أن تسحبه من قوات في سوريا، ويمكنها أن تعيد نشر قواتها مرة أخرى داخل سوريا في أي وقت أرادت، ولكن المشكلة الحقيقية تتمثل في الرسائل السياسية السلبية التي أرسلتها واشنطن لحلفائها في المنطقة، ورسائل الطمأنة التي أرسلتها لخصومها من هذا القرار، الذي بدا أنه انسحاب عشوائي أقرب لانسحاب المهزومين.
ربما كان هذا القرار سيلاقي بترحيب كبير إذا كان قرارا مواكبا لخروج كافة القوات الأجنبية من سوريا بما فيها القوات الإيرانية والتركية والروسية، وربما كان سيحظى بتقدير لو جاء في وقت لاحق، وكان نتيجة اتفاق سلام شامل وعادل ينهي هذه الحرب الوحشية، ويحفظ وحدة سوريا وما تبقى من شعبها ويبقيها بعيدا عن مخططات التقسيم والتجزئة ومناطق النفوذ، لكن في هذا التوقيت وفي مثل هذه الظروف لا يمكن النظر إلى هذا القرار سوى من ناحية ما سيتركه من فراغ وما سيخلفه من فوضى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة