مؤخرا بدأت تركيا برفع صوتها ملوحة بالتدخل شرقي الفرات منطقة الخط الأحمر الأمريكي رغم تحذيرات واشنطن ووعودها لحلفائها
لم يحير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خصومه وأنصاره على حد سواء داخل منظومة الحكم الأمريكية فحسب، إثر اتخاذه قرارات مفاجئة وسريعة سواء داخل الولايات المتحدة أو حتى خارجها، بل وصلت تبعات ذلك إلى العالم بأسره باعتباره قائد دفة الحكم في أكبر دولة على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية.
قرار ترامب الأخير فيما يخص انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية أربك منطقة الشرق التي اتحدت أغلب حكوماتها على محاربة تنظيم داعش والمجموعات الأخرى كالنصرة وأخواتها.
العجيب في الأمر أن الأكراد اليوم ينشطون للحصول على وعود أمريكية بحمايتهم رغم كل هذا الخذلان الذي لاقوه منها وباتوا متخبطين في البحث عن طوق نجاة يقيهم الغرق أمام المتربصين بهم بعد أن تركت لهم الولايات المتحدة من الأعداء ما يكفي لـ"سحقهم" ومواجهة مصيرهم لوحدهم
لا شك أن كثيرا من الدول ستعيد حساباتها خاصة المشاركة لسوريا حدودا برية، منها العراق ولبنان والأردن وتركيا، لكن الطرف الأكثر صدمة هو "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أمريكيا، ففي الوقت الذي كانت تناشد فيه الأخيرة كبح جماح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تنفيذ تهديداته بحقها تتفاجأ بقرار ترامب الانسحاب واستقالة وزير دفاعه جيمس ماتيس الداعم الكبير لبقاء هذه القوات في سوريا.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتربع الولايات المتحدة على عرش زعامة العالم توجه الأكراد إلى التحالف مع الولايات المتحدة، التي لم تدخر حيلة سياسية لجعل الأكراد يؤمنون بها كحليف قوي وفيٍّ يستحق الامتثال لأوامره، وقصص الخذلان الأمريكي لهم كانت دائماً تظهرها الولايات المتحدة على أنها قوة أمر واقع على سلم الأولويات وخسارة حرب سياسية لا خيانة، وآخرها في الرُّبع الأخير من القرن الماضي عندما انقلب حزب البعث العراقي على السلطة ونسف الاتفاقات التي كانت أبرمتها الحكومة التي سبقته مع الأكراد ونكل بهم، واكتفت الولايات المتحدة آنذاك بإيواء زعيم الأكراد الملا مصطفى البارزاني كلاجئ حتى وفاته عام 1979 في مشفى جورج واشنطن.
ولكن الأمر في الفترة الأخيرة تغير.. فبعد أن كان الخذلان الأمريكي لحلفائه عموماً وللكرد على وجه الخصوص يترك للعاشق منهم لهذا التحالف مدخلاً لتبريره كخذلان الولايات المتحدة لمصر حسني مبارك وتونس زين العابدين بن علي ويمن عبدالله صالح، أصبح الخذلان الأمريكي اليوم سياسة وكأنها ممنهجة، وهذا تجلى واضحا حين نفذ رئيس إقليم كردستان العراق مسعود مغامرته السياسية بإجراء استفتاء للانفصال عن المركز والاستقلال التام عام 2017، ظلت الولايات المتحدة صامتة جراء خطة بارزاني، لدرجة أن تصميم الأكراد على الاستفتاء والانفصال فُسِّر بوعود أمريكية حقيقية، ولكن المفاجأة كانت عندما تم الاستفتاء وتعرض الإقليم لحصار خانق من الجيران وحصار سياسي، لتأتي واشنطن وتعلن رفضها نتائجه ليضطر الإقليم لإلغائه بعد أن تكبد خسائر فادحة وصلت لحد شق الصف الكردي وخسارة كركوك.
هذا بالنسبة للتحالف الأمريكي للأكراد في العراق، الذي يجري وبالأسلوب نفسه مع الأكراد في سوريا، الذين لم يتعظوا بهذا التحالف، على الرغم من أنهم عاينوا الخذلان الأمريكي لأشقائهم في العراق وهم الأقوى والأكثر ثقلاً سياسياً واقتصادياً وقانونياً ومؤسساتياً من الكرد في سوريا، الذين خُذِلوا مرات ومرات من قبل الأمريكان في فترة لا تتجاوز العامين.
وأول الخذلان كان مع كفّ أمريكا يدها عن مساعدة دعم الأكراد -وهم الجنود المطيعون لها- في عملية درع الفرات عام 2015 التي انتهت بدحر تركيا القوات الكردية عن مناطق واسعة في الشمال السوري حتى منبج، ثم بعد ذلك تخلت عنهم في عملية غصن الزيتون عام 2018م، التي شنتها تركيا ضدهم وأخرجتهم من عفرين، وكانت الولايات المتحدة في موقع المتفرج والمصرِّح بأن هذا لا يعني أنها تخلت عن حلفائها، فمهمتها تقتصر على دعم حلفائها والدفاع عنهم شرقي الفرات فقط.
مؤخرا بدأت تركيا برفع صوتها ملوحة بالتدخل شرقي الفرات منطقة الخط الأحمر الأمريكي، على الرغم من تحذيرات واشنطن ووعودها لحلفائها بأنها لن تقبل بتجاوز هذا الخط، ولا بد من التنسيق مع تركيا لثنيها عن العملية العسكرية، مما رفع معنويات حلفاء الولايات المتحدة (الأكراد) بالتحدي والاستعداد لمثل هذه الحماقات التركية كما يصفونها، حتى جاء القرار الأمريكي الانسحاب الكامل من سوريا الذي كان كالصاعقة على الأكراد، الذين وصفوه بالطعنة في الظهر والخيانة لدمائهم التي سالت تحت قيادة الأمريكان في حربهم ضد داعش، وتنفيذ الأجندات الأمريكية واتهامها ببيعهم لتركيا وغيرها من الأطراف الفاعلة على الأرض السورية.
في الواقع.. نستطيع القول إذا كان المرء لا يلدغ من الجحر مرتين فإن الأكراد قد لُدغوا من جحر التحالف الأمريكي مرات عديدة، والعجيب في الأمر أن الأكراد اليوم ينشطون للحصول على وعود أمريكية بحمايتهم، على الرغم من كل هذا الخذلان الذي لاقوه منها وباتوا متخبطين في البحث عن طوق نجاة يقيهم الغرق أمام المتربصين بهم، بعد أن تركت لهم الولايات المتحدة من الأعداء ما يكفي لـ"سحقهم" ومواجهة مصيرهم لوحدهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة