"العين الإخبارية" تفتح خزينة إخوان تونس (الحلقة الأولى)
حين حطت طائرة راشد الغنوشي، في 2011، بمطار قرطاج الدولي، أقسم بأغلظ الأيمان بأنه لا يطمح للسلطة، كان صادقا، لكن في لعبة الكلمات فقط.
نزل من مدرجات الطائرة يستنشق عبق بلد لفظه قبل سنوات طويلة بعد صفقة منحته تذكرة النجاة، مقابل تسليم رفاقه في حركة "الاتجاه الإسلامي" (النهضة لاحقا) للنظام حينها.
وبالنسبة إلى رجل كان على الدوام مستعدا للمتاجرة بمقدساته، لم يكن من الغريب سماع تصريحاته في مقابلة تلفزيونية وهو يزعم بأنه لا يطمح للسلطة، فلقد كان صادقا لأنه بالفعل كان يطمح لأكثر من ذلك.
عاد راشد الغنوشي من منفاه ببريطانيا، محملا بأجندة تخريبية تقوم على الركوب على موجة الغضب الشعبي المستعر حينها، واستثمار الزخم الحاصل لأسباب اجتماعية.
ويمكن القول أن الغنوشي عاد متدثرا بعباءة "مناضل" اضطهدته الأنظمة من الحبيب بورقيبة إلى زين العابدين بن علي، معولا على ذاكرة الشعوب القصيرة في الاحتفاظ بحيثيات التاريخ، ومستندا إلى حالة من الضبابية والفوضى وانعدام اليقين.
كان ذلك كل ما يريده زعيم إخوان تونس؛ أرضية ملائمة لإشعال فتيل التطرف من جديد ووضع تونس على سكة الفوضى، فيحقق بذلك انتقامه ويقدم لأنصاره ثأرا زائفا لـ"سنوات الجمر".
وفي نفس الوقت، يمرر عبر كل ذلك أجندته المسمومة لأدلجة المجتمع وزرع بذور التطرف والإرهاب، وتحقيق ثروة طائلة، وهو ما حصل حرفيا خلال السنوات القليلة اللاحقة لعودته.
أوراق تتساقط
وبعد أكثر من 12 عاما من وجودهم في تونس، بدأت الأقنعة الإخوانية تسقط، لتنكشف جرائمهم وتفوح رائحة الفساد من صناديقهم السرية المعدة لتفخيخ الكيان السلمي للدولة التونسية والتعايش المشترك فيها.
وبتمويلات أجنبية، تمكنوا من تنفيذ مخططاتهم الإجرامية على مدى أكثر من عقد، ففخخوا مفاصل الدولة التي تسللوا إليها، وعاثوا فيها فسادا، ظنا منهم أنهم فوق المحاسبة.
ولأن لكل جريمة يوم حساب، أطل عليهم مسار 25 يوليو/تموز 2021، ليعري وجوههم فتنكشف صناديقهم السرية ومخططاتهم الخبيثة.
ويرى مراقبون أن أموالا أجنبية طائلة دخلت إلى تونس لدعم المخطط التدميري الذي نفذه تنظيم الإخوان عن طريق تمويل الإرهاب والتغلغل في كامل مفاصل الدولة.
وفي 6 يوليو/تموز 2022، فتح القضاء التونسي الملف المالي لحركة النهضة بعد استدعاء رئيسها راشد الغنوشي للتحقيق في شبهات تبييض أموال، قبل أن يأمر بتجميد أرصدته وأرصدة مجموعة من القيادات الأخرى والشخصيات المرتبطة بالحركة الإرهابية.
وكثيرا ما أثار الإنفاق الضخم لحركة النهضة، سواء في الحملات الانتخابية أو الاجتماعات بهدف اختراق الشارع واستمالته، التساؤل عن مصدر تلك الأموال في وقت لم يعرف فيه أي نشاط اقتصادي للغنوشي.
هذا ما كشفت عنه سابقا هيئة الدفاع عن السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين تم اغتيالهما في 2013، حيث أظهرت الأدلة التي لا تزال قيد البحث والتحقيق، أن لإخوان تونس جهازا ماليا سريا نفذوا بواسطته جرائمهم.
وبحسب تقارير متطابقة، يحصل التنظيم الإرهابي على التمويلات عن طريق "جمعيات خيرية" وهي "نماء" و"مرحمة".
جهاز مالي سري
رضا الرداوي، المحامي التونسي وعضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي، يرى أن الجهاز المالي السري للغنوشي متورط في غسل الأموال، وفي عمليات تسفير الشباب التونسي إلى سوريا للالتحاق بتنظيم داعش.
ويقول الرداوي -في تصريح لـ"العين الإخبارية"-، إن "الغنوشي باع تونس وترابها مقابل مبالغ مالية من اليورو والدولار، حيث كان هدفه الأساسي تدمير البلاد فقط".
ويوضح: "الظاهر في جمعية نماء، التي تضم مجموعة من الأشخاص مرتبطين بحركة النهضة، أن دورها يكمن في تشجيع الاستثمار، ولكن دورها الخفي يكمن في إدارة معركة التسفير عبر مبالغ مالية من الخارج"، مشيرا إلى أن بعض أعضاء الجمعية في علاقة مباشرة براشد الغنوشي الذي باشر هذه الأعمال كاملة.
وأضاف أن "الكثير من الأموال وصلت إلى الإخوان في السنوات العشر الماضية، وكانت تدخل تونس نقدا وتحديدا حين كان الإخواني علي العريض يسيطر على قاعة التشريفات بمطار تونس قرطاج باعتباره وزير الداخلية في تلك الفترة".
وبالنسبة للرداوي، فإن "جمعية (مرحمة) تأسست أيضا سنة 2013، وحصلت على تدفقات مالية بأكثر من 16 مليون دينار (ما يعادل نحو 5.5 مليون دولار) من جمعيات مشبوهة متهمة بالإرهاب وهذا ثابت في محاضر".
وتابع أنه "في عام 2018 فقط، حصلت الجمعية على 11 مليونا و200 ألف دينار (نحو 4 ملايين دولار)، وهكذا خاضوا انتخابات 2019، وهكذا كانت الأموال تدخل تونس“.
وأشار إلى أن "الإخواني عبدالكريم سليمان (تم سجنه مؤخرا في قضية "نماء")، له أيضا علاقات بوكالات سفر، وتحديدا بوكالة سفر معينة قامت بعمليات التسفير، وهناك معاملات مالية قال إنها قيمة أرباحه، وهي مقابل بيع شباب تونس لبؤر التوتر".
وفي 11 يناير/كانون الثاني الماضي، جرى اعتقال سليمان على خلفية اتهامه بتبييض الأموال، حيث يشتبه بتورطه في الحصول على تدفقات مالية مشبوهة من الخارج بعد 2011.
وتُقدر الأموال التي يشتبه بأنه حصل عليها بأكثر من 100 مليون دينار (نحو 30 مليون دولار)، قبل إيداعها بالداخل تحت واجهة شركات بطرق معقدة، بالإضافة إلى امتلاكه عقارات عديدة تقدر قيمتها بملايين الدينارات التونسية.
وعبدالكريم سليمان هو الاسم "اللّغز"، والقيادي في جماعة "النهضة"، وأحد رجالات راشد الغنّوشي المقرّبين والمسؤول عن أموال التنظيم مجهولة المصدر في تونس.
الوجه الآخر
من جانبه، يعتبر الصحبي الصديق، المحلل السياسي التونسي، أن "هذه الجمعيات ساهمت على مدى سنوات في تمويل النشاط المعلن وغير المعلن للحركة الإخوانية، وساعدت في تسفير الإرهابيين إلى بؤر التوتر ومنحهم أموالا طائلة من أجل القتل وسفك الدماء".
ويقول الصديق -في حديث لـ"العين الإخبارية"-، إنه "منذ تقديم هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي قضايا ضد قيادات الإخوان، ومنهم عبدالكريم سليمان وعلي العريض، تم سجن العديد من أعضاء هذه الجمعيات"، مضيفا أن "قطار المحاسبة ما زال متواصلا".
وأشار إلى أن حركة النهضة الإخوانية لديها 3 أجهزة سرية يترأسها راشد الغنوشي، وهي جهاز مالي وآخر عسكري وثالث مخابراتي، ما جعل الحركة تتغلغل داخل دواليب الدولة بسهولة ونفث سمومها.
وفي27 يونيو/حزيران 2022، قرر القطب القضائي لمكافحة الإرهاب فتح تحقيق قضائي ضد مسؤولين في جمعية "نماء"، من أجل جرائم تتعلق "بتبييض وغسل الأموال والاشتباه في تمويل أشخاص أو تنظيمات مرتبطة بالإرهاب".
ويشتبه أن الجمعية حصلت، في 2013 فقط، على تمويلات بقيمة 20 مليون دينار (6,5 مليون دولار).
وسبق أن تقدمت هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي بجملة من الشكاوى ضدّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وعدد من القضاة على غرار بشير العكرمي، بتهم بينها غسل الأموال والتخابر.
aXA6IDE4LjExOC4zNy44NSA= جزيرة ام اند امز