انتخابات تونس وهزيمة الإخوان واليسار.. سقوط الأيديولوجيا
شهدت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية تراجعا حادا لتياري الإخوان واليسار نتيجة العديد من العوامل السياسية والمجتمعية بتونس
حملت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية العديد من المفاجآت أبرزها الضربة الموجعة التي تلقاها تيار الإخوان، وتراجع مرشحي السلطة؛ ما يثير تساؤلات عدة حول ما يمكن تسميته بتغير المزاج الانتخابي في تونس.
ووفقا للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس، فقد حصل المرشح المستقل قيس سعيد أستاذ القانون على نسبة 18.9% من أصوات الناخبين وحصل رجل الأعمال نبيل القروي على 15.5% من إجمالي عدد أصوات الناخبين التي تتجاوز ا7 مليون ناخب.
ومثلما كانت التوقعات؛ ذهبت الانتخابات الرئاسية التونسية إلى جولة إعادة في ظل صعوبة حصول أي مرشح على أكثر من 50% من أصوات الناخبين، وعزوف نسبة كبيرة ممن يحق لهم التصويت في الاستحقاق الانتخابي. فجاءت النتائج على غير المتوقع خاصة فيما يخص الفائز الأول قيس سعيد.
عطفا على ما سبق يمكن إرجاع ظاهرة تغير مزاج الناخبين في تونس إلى العديد من العوامل:
1- توقيت الانتخابات
أدت وفاة الرئيس السبسي إلى تقديم موعد الانتخابات الرئاسية بشهر عن موعدها المقرر في 15 نوفمبر 2019، والدعوة إلى إجرائها في 15 من سبتمبر الراهن، يسبقها فترة الدعاية والحملات الانتخابية بنحو 12 يوما تلاها يوم الصمت الانتخابي في 14 سبتمبر الجاري. ثم إجراء عملية الاقتراع في الخارج على مدار ثلاثة أيام هي 13 و14 و15 سبتمبر وبدء الاقتراع في الداخل 15 سبتمبر الجاري.
2- انخفاض نسبة المشاركة
بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية التونسية 42% وهي نسبة قليلة بالمقارنة بانتخابات الرئاسة التونسية التي أجريت عام 2014، حيث بلغت نسبة المشاركة فيها 64% تقريبا، ويرجع سبب عزوف الناخبين عن المشاركة خاصة فئة الشباب لارتفاع عدد المرشحين للانتخابات الرئاسية، البالغ عددهم 26 مرشحا، وحالة الالتباس التي حدثت لدى الناخبين بسبب تشتت الناخبين وكثرة البرامج.
كما أن ضيق التوقيت الزمني المحدد لإجراء الانتخابات، لم يترك لهيئة الانتخابات فسحة كبيرة من الوقت، للقيام بحملات دعائية داخل المدن لتوعية الناخبين، ودعوتهم للذهاب بكثافة إلى صناديق الاقتراع. فضلا عن انعدام ثقة الناخبين في الطبقة السياسية التي حكمت البلاد بعد الثورة، جراء تدهور أوضاعهم المعيشية نتيجة الغلاء وتردي الخدمات وتدهور البنية التحتية.
3- سقوط القوة الأيديولوجية
يمثل إعلان هيئة الانتخابات التونسية رسميا نتائج الجولة الأولى من السباق الرئاسي، سقوط الأيديولوجيا، أي القوى السياسية الحزبية والدينية التقليدية، التي سيطرت على المشهد السياسي التونسي، زهاق العشر سنوات الماضية عقب ثورة 2011. فقد شارك في هذه الانتخابات نحو 16 حزبا سياسيا و10 مستقلين أغلبهم ينتمون للقوى السياسية، وعلى الرغم من ذلك لم يحوزوا على ثقة الناخبين.
يعكس إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية الكثير من الدلالات المتعلقة بالخريطة السياسية في تونس، يمكن إجمالها فيما يلي:
انحسار شعبية الإخوان
رشح حزب حركة النهضة الإخواني رسميا عبدالفتاح مورو وعلى قائمة المستقلين حمادي الجبالي، وحاتم بولبيار، فضلا عن دعمها المرشح المنصف المرزوقي، ولم يستطع أحدهما تحقيق عدد الأصوات التي تؤهله للوصول للجولة الإعادة، فقد حصلوا مجتمعين على 445598 صوتا، من إجمالي عدد الذين اقترعوا في هذه الانتخابات، ويلاحظ أيضا أن هذه الأصوات مجتمعة أقل من عدد الأصوات التي حصل عليه المرشح نبيل القروي الذي يحتل المرتبة الثانية لخوض جولة الإعادة.
وتدل هذه النتائج على انحسار شعبية الإخوان في تونس، وهذا الانحسار ليس بالمفاجأة فقد بدأ بعد ثورة 2011، في التوقيت نفسه الذي أعلنت فيه النهضة الإخوانية عن نفسها، فقد حصلت حركة النهضة على 89 مقعدا في المجلس التأسيسي الذي تشكل في 23 أكتوبر 2011، ودعمت المنصف المرزوقي رئيسا للدولة، ثم انخفضت نسبة تمثيلها في برلمان 2014، حيث حصلت على 69 مقعدا من مقاعد المجلس، في المقابل حصلت القوة المدنية المتمثلة في التيار اليساري والليبرالي على أغلبية المجلس المكون من 2017 عضوا، ثم خسر حليفها في انتخابات الرئاسة التونسية المنصف المرزوقي الذي حصل على 45%، لصالح الرئيس الراحل السبسي الذي حصل على نسبة 55%، ثم حصولها على نسبة 28% في الانتخابات البلدية 2018، في المقابل حصلت التيارات المدنية على الأغلبية.
واستمرارا لمسلسل السقوط، تقدم التيار الديني بأكثر من مرشح للتنافس على منصب الرئيس في انتخابات سبتمبر 2019، ليخرج من السباق مبكرا، ما يؤكد لفظ الشارع التونسي له.
تراجع تيار اليسار
أما بالنسبة للتيار اليساري الذي حل في المرتبة الثالثة في السباق الرئاسي 2014، فقدم 3 مرشحين منتمين لأحزاب يسارية، وهم: حمة الهمامي عن حزب العمال، والمنجي الرحوي عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وعبيد البريكي عن حزب "تونس إلى الأمام" وجاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال اليسار، وكاشفة مكانته فقد حصل المرشح حمة الهمامي على نسبة 0.7%، بينما حصل المنجي على 0.8%، والبريكي على 0.2%، وبعدد أصوات مجتمعة تبلغ نحو 56397 صوتا من إجمالي عدد الناخبين في الانتخابات الرئاسية.
ويفسر لنا ذلك حالة التشتت والانقسام والصراع التي شهدها تيار اليسار في الفترة الماضية، بسبب اختلاف وجهات النظر حول طريقة إدارة شؤون الجبهة، وبسبب ملف الترشح للرئاسة، أما بالنسبة لطريقة عمل اليسار فظلت ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير بالنسبة لتجديد خطابه السياسي، وأساليب العمل وفقا للمتغيرات التي تشهدها الساحة السياسية في تونس.
تراجع الأحزاب الليبرالية
تسببت حالة الاختلاف والانقسام التي شهدتها الأحزاب الليبرالية في تراجعها فقد انقسم حزب نداء تونس (أغلبية سابقة) إلى أكثر من حزب، وذهب بعض أعضائه لتشكيل أحزب مثل "تحيا تونس- حزب بنى وطن - وحركة مشروع تونس"، وقدمت هذه الأحزاب 10 مرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية، ما أدى إلى تشتت الجهود.
وظهرت أمام الشعب التونسي بمظهر الطامع في الحكم ليس إلا فضلا عن كونها لم تقدم شيئا للمواطن التونسي، على الرغم من مشاركتها في الحكم طيلة السنوات الماضية بعد الثورة التونسية. وأدّى الفراغ الذي تركته السُلطة في مسألة معالجة الأزمات الاجتماعيّة إلى ظهور مَن يطرح البديل والحلول ويعتمد في ذلك على الاقتراب أكثر من الطبقات المهمّشة.
عوامل فوز القروي وسعيد
لم يكن تأهل نبيل القروي لخوض جولة الإعادة بالمفاجأة، فالرجل متواجد على الساحة السياسية التونسية منذ سنوات عديدة سواء بدأ بالظهور على الساحة السياسية منذ أن قدم دعما للرئيس السبسي في انتخابات 2014. لكن هذا الصعود يرجع لعوامل عدة منها:
- ظروف احتجازه التي أدت إلى تعاطف الكثيرين معه.
- العمل الأهلي المتمثل في تأسيسه لجمعية الخليل الخيرية التي كان لها دور كبير في حصوله على أصوات المهمشين والفقراء.
-جناحه الإعلامي "قناة نسمة" الفضائية سهلت وصوله إلى جولة الإعادة، حيث قامت بدور كبير في الدعاية له.
-خبراته في مجال التسويق والاتصال مكنته من تنظيم وتقديم برنامج انتخابي باقتدار من خلال زوجته ومحبيه رغم ظروف احتجازه.
أما المرشح قيس سعيد فقد مهدت العديد من الأسباب صعود نجمه من بينها كونه أبرز المؤيدين للمصالحة "مع الشعب"، وانتقاده المستمر الأحزاب والنظام الحاكم، كما تبلورت أهم آرائه فيما يتعلق بقانون "المساواة في الميراث" في أن الأمر محسوم بالنسبة له "بالنص القرآني" وهو التوجه الذي يلاقي صدى بين قطاع لا يمكن الاستهانة به من التونسيين، وهم المحسوبون على التيار الديني.
خلاصة القول إن الناخبين التونسيين قد حددوا اختياراتهم بالفعل، من خلال انتخابهم المرشحين قيس سعيد ونبيل القروي وذلك بالنسبة للمرحلة الأولى، أما بالنسبة للمرحلة الثانية، سيكون هناك قول آخر إذ ستدعم الأحزاب الليبرالية واليسارية رجل الأعمال نبيل القروي، في مواجهة المرشح المحافظ الأكاديمي قيس سعيد الذي سيحصل على أصوات التيار الديني باعتباره الأقرب أيديولوجيا لهم.