هذه المعركة كانت زائدة عن الحاجة تماما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها تونس. إلا أن تنظيما لا يعيش إلا على اختلاق الأزمات
وضع الرئيس التونسي قيس سعيد ترشيحات حركة "النهضة" لمنصب رئيس الوزراء جانبا ليختار شخصية مستقلة من صف التكنوقراط.
ولئن استقبلت هذه "الحركة" تكليف هشام المشيشي وكأنه صفعة لها، فهاجمته كما هاجمت الرئيس، فلأنها لم تكن لتتوقع أن تخرج سلطة الترشيح من قبضتها على هذا النحو.
الرئيس استند إلى أساس دستوري لا يقبل الجدل يخوله اختيار من يشاء، على أن تحظى الحكومة بثقة البرلمان.
ولكن "النهضة" كانت تحسب أنها قادرة على تسمية المرشح، لمجرد الافتراض أنها "الكتلة الأكبر" في البرلمان التونسي، وما كان ذلك إلا وهما.
واتضح بالنسبة للرئيس سعيد أن تلك "الكتلة" التي تضم 54 مقعدا وسط 217 مقعدا، هي ليست الأكبر ولا بأي صورة من الصور. حسابيا، هي لا تشكل إلا ربع البرلمان. وسياسيا، هي حزب تطرف، مشكوك في ولائه لتونس، وفوق ذلك، فإن "النهضة" لم تتصرف داخل البرلمان ولا داخل حكومة إلياس الفخفاخ، إلا بأدوات الهيمنة والغطرسة وكأنها تملك الأغلبية المطلقة هنا وهناك، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع.
الغطرسة التي تصرفت بها حركة "النهضة" كانت بمثابة الحفرة التي ظلت تتوغل في تعميقها، كلما واجهت تحديا سياسيا أو دستوريا، حتى وقعت بها.
وَهْم "الكتلة الأكبر" هو الذي أغرى هذا التنظيم ذا الصلات الوثيقة بتنظيمات الإرهاب، بأن يعتبر نفسه القوة القادرة على أن ترفع من تشاء وتطيح بمن تشاء، ونزاعها مع الفخفاخ كان دلالة قاطعة على ذلك.
فلما طلبت منه أن يقوم بتوسيع التحالف الحكومي لكي "تستوزر" حلفاء جدد، ورفض داعيا إلى المحافظة على الاستقرار، فإنها بدأت حربا ضده وسعت إلى سحب الثقة به، فآثر أن يستقيل.
هذه المعركة كانت زائدة عن الحاجة تماما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها تونس، إلا أن تنظيما لا يعيش إلا على اختلاق الأزمات، ما كان بوسعه أن يفعل شيئا آخر غير أن يختلق أزمة جديدة.
زعيم هذا التنظيم راشد الغنوشي، يواجه بدوره دعوات لسحب الثقة به من منصبه كرئيس للبرلمان.
وهو منصب أثبت أنه لا يستحقه، وأنه وظف وجوده فيه على نحو كاد يدمر ركائز الشرعية نفسها، فمن ناحية، قام بزيارة ولي أمره رجب طيب أردوغان، من دون أي اعتبار للبروتوكول، ولا حتى أن يخبر اللجان المختصة بالبرلمان. ووجه له الدعوة، دون وجه حق أصولي، لزيارة تونس. ومن ناحية أخرى، بتدخلاته غير المبررة في وجهة السياسة الخارجية للبلاد، وهي شأن يخص الرئيس، لا أحد سواه.
وظل من الواضح للجميع أن هذا الرجل، وجماعته من خلفه، يسعى إلى الإضرار بمصالح تونس وعلاقاتها الخارجية، لحساب المشروع الإخواني، وأن له أجنداته التي يريد أن يخدم بها أطراف هذا المشروع، ومنها حكومة المليشيات والمرتزقة في طرابلس.
هل كان يمكن للرئيس سعيد أن يقف مكتوف الأيدي، وهو يرى أزمة داخل البرلمان، وأخرى داخل الحكومة، وثالثة في السياسة الخارجية، ورابعة في الاقتصاد، وخامسة في الأمن، وهو يرى متورطين بأعمال العنف والإرهاب وقد صاروا يطمحون إلى أن تكون لهم وزارات؟
وهل كانت تونس بحاجة، من الأساس، إلى أزمة حكومية، لمجرد أن "النهضة" تريد أن تضيف حلفاء جدد؟ بل هل كان من اللائق لحركة لا تملك إلا مقاعد محدودة أن تبدو وكأنها الآمر الناهي، وأنها هي السلطة في كل مكان، وأنها تملك الحق للتجاوز حتى على صلاحيات الرئيس نفسه؟
الغطرسة التي تصرفت بها حركة "النهضة" كانت بمثابة الحفرة التي ظلت تتوغل في تعميقها، كلما واجهت تحديا سياسيا أو دستوريا، حتى وقعت بها.
صحيح أن البرلمان التونسي ممزق بين كتل صغيرة، وأن التحالفات فيه هشة، إلا أن المشيشي يستطيع أن ينعم بدعم مختلف الأطراف، وقد لا يكون بحاجة إلى تلك "الكتلة الأكبر" الوهمية، التي أشهرت ضده، منذ اللحظات الأولى للتكليف، سيوف الهجوم والنقد والتجريح.
كل الذين تضرروا من وجود "النهضة" في رئاسة البرلمان وفي الحكومة، يمكنهم أن يقدموا الدعم له، وهو بصفته مستقلا، فلن يكون مأخوذا بأجندة أحد، ويمكنه أن يستوزر شخصيات مع كل الأحزاب إذا ما تقدمت الكفاءة على الولاء الضيق، ومصلحة تونس، على مصلحة أي كتلة أو حزب.
دون ذلك، فلن يكون هناك مفر من العودة إلى الناخبين، ليقولوا قولهم في الذين أجبروا تونس على أن تظل تصارع الأزمة تلو الأخرى لنحو 10 سنوات.
لم تقدم "النهضة" لتونس على امتداد تلك السنوات إلا الاضطراب والصراعات من أجل أن توسع نفوذها داخل مؤسسات الدولة، وتمكّن للتطرف ولأجندتها الإخوانية الخاصة، وظلت تتصرف بدوافع الغطرسة على الجميع، بمن فيهم الرئيس نفسه، حتى عميت عن النظر إلى حقيقة أن كتلة لم تكسب ربع الأصوات، لا يليق بها أن تتغطرس على سلطة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة