حلقة نقاشية بـ"العين الإخبارية".. تونس إلى أين؟
"العين الإخبارية" نظمت حلقة نقاشية ضمت محللين وأساتذة علوم سياسية تحت عنوان "تونس إلى أين؟"، بحثت أبرز ملامح المشهد الانتخابي التونسي
يبدو السباق إلى قصر قرطاج، الذي يخوض غماره نحو ستة وعشرين مرشحًا، غير محسوم النتائج حتى اللحظة الراهنة، وسط أجواء حولت الانتخابات التونسية، المقرر عقدها في 15 سبتمبر/أيلول الجاري، إلى ساحة مفتوحة على نحو يجعل من التكهن بنتائجها أو تبيان المرشح الأوفر حظًا للفوز بالسباق أمرًا من الصعوبة بمكان.
"العين الإخبارية" نظمت حلقة نقاشية تحت عنوان "تونس.. إلى أين؟" في التاسع من سبتمبر/أيلول الجاري، رأسها الدكتور علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.
حاولت الحلقة النقاشية تسليط الضوء على محاور عدة يمكن من خلالها بلورة صورة واضحة حول أبرز الملامح التي تميِّز المشهد الانتخابي التونسي لعل في مقدمتها الخريطة الانتخابية، وأهم القوى السياسية التي نجحت في إيجاد موطئ قدم على الساحة التونسية، والاتجاهات السياسية الأيديولوجية الرئيسية الممثَّلة فضلًا عن تقييم الحملات الانتخابية الدائرة والبرامج المطروحة.
واخْتُتِمت بتقديم تصوُّر حول أداء المرشحين الحاليين للرئاسة التونسية بشكل قد يُسَهِّل من عملية التنبؤ بالمرشحين الأقرب للتأهُّل للجولة الثانية من الانتخابات.
الخريطة الانتخابية التونسية الراهنة: السمات الكُلِّية
ارتأت الدكتورة نيفين مسعد، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أنَّ الخريطة الانتخابية التونسية تتسم بملامح أربعة رئيسية؛ أولها أنَّ التيارات الرئيسية الثلاثة، وهي: اليمين واليسار و"الإخوان" ممثَّلة، وكل تيار منقسم على ذاته ويعبِّر عنه عدد كبير من المرشحين.
ولعل التكتل الأكثر تعرضًا للتفكك هو التكتل الليبرالي؛ إذ إنه من عباءة نداء تونس، خرج يوسف الشاهد ممثِّلا عن حزب تحيا تونس، وسلمى اللومي عن حزب أمل تونس، ومحسن مرزوق عن حركة مشروع تونس، وسعيد العيدي عن حزب بني وطني، وسليم الرياحي عن الاتحاد الوطني الحر.
وأشارت إلى أبرز المرشحين الممثِّلين عن التيار الإسلامي وهم: "عبدالفتاح مورو" ممثِّلا عن حركة النهضة التونسية (ذراع الإخوان في تونس) وكل من حمدي الجبالي والهاشمي الحامدي وحاتم بولبيار وهم منشقون عن الحركة.
وحول التيار اليساري، أوضحت أنَّ اليسار كان متجمعًا حتى فترة قريبة ولكنه مُنِي بانشقاق ضخم أفضى إلى ترشُّح ممثليْن عن الجبهة الشعبية وهما حمة الهمامي ومنجي الروحي، بالإضافة إلى وجود عدد من المستقلين الذين قد يقتربون بشكل أو بآخر من أحد التيارات الثلاثة سالفة الذكر.
وعن الملمح الثاني للخريطة الانتخابية، أوضحت الدكتورة نيفين مسعد أنَّ الغالبية العظمى من المرشحين ممن لهم باع بالعمل السياسي وتقلَّدوا مناصب سياسية عدة بمعنى أنَّ الشعب التونسي قد اختبرهم من قبل، ويجري تقييم أولئك على أساس ما قدَّموه من إنجازات أو ما قد أصيبوا به من إخفاقات.
وتضيف أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة أنَّ الملمح الثالث يتعلق بالفئة العمرية الممثَّلة في الانتخابات، وانتهت إلى القول بأنَّ متوسط عمر مرشحي الانتخابات هو الخمسينيات.
ويتمثَّل الملمح الأخير في أنَّ المرشحين يمثِّلون مختلف المدن والأقاليم التونسية، وثمة مناطق عدة يجري توظيفها في الحملات الانتخابية كالمناطق الحدودية خصوصًا في ظل ما تشهده تونس من تكريس لثنائية الساحل والهوامش أو الأطراف.
ظاهرة "القادمون من الخلف"
يرى الدكتور عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلى ظاهرة "القادمون من الخلف" أو القادمون من خارج المشهد السياسي والحزبي، وأحد أبرز هؤلاء نبيل القروي، أحد كبار رجال الأعمال والمالك السابق لقناة "نسمة" التونسية، وقد جرى اعتقاله قبل فترة قصيرة من انطلاق الماراثون الانتخابي، وهو يقدِّم نموذجًا مختلفًا عن الغالبية العظمى من المرشحين الذين خبروا العمل السياسي.
تيارات ثلاثة رئيسية
يقول الدكتور فريد خان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قسنطينة بالجزائر إنَّ ثمة تيارات ثلاثة رئيسية ممثَّلة بالخارطة الانتخابية التونسية وهي التيار "الإخواني"، والتيار الليبرالي أو البورقيبي، والتيار المختلط أو الهجين سواء كان إخوانياً أو ليبراليًا أو شعبويًا أو يستخدم المال السياسي في الحملات الانتخابية.
ويرى أنَّه لا أحد بإمكانه الجزم بنتيجة الانتخابات؛ فالكل بات متوقعًا ومهيئًا لحدوث مفاجآت؛ فالشارع التونسي من الممكن أن يغيِّر من الخارطة السياسية برمتها سواء بالانقلاب على كل المفاهيم "الإخوانية" والليبرالية وبناء عهد جديد مع شخصيات أكاديمية لديها تصور اقتصادي لأنَّ الأزمة الحقيقية التي تعيشها تونس هي أزمة اقتصادية بالأساس ألقت بظلالها على السياسة والأمن، وأثرت أيضًا على العلاقة مع الجوار.
علاقة ارتباطية بين "الرئاسية" و"النيابية"
لفت الدكتور محمد صفي الدين خربوش، رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إلى العلاقة الارتباطية بين الانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلس نواب الشعب؛ فهناك مرشحون حزبيون قد قرروا خوض الانتخابات الرئاسية وكانوا على وعي بضآلة فرص فوزرهم لكنهم ابتغوا من ذلك دعايةً لهم قبيل الانتخابات البرلمانية.
وأضاف الدكتور خربوش أننا بصدد تياريْن رئيسييْن على الساحة السياسية التونسية منذ 2011 وهما التيار "الإخواني" متمثِّلًا في حركة النهضة ومرشحها الرئيسي عبدالفتاح مورو، والتيار الآخر هو التيار "البورقيبي" أو "الوسطي" ويضم يوسف الشاهد و"محسن مرزوق وعبدالكريم الزبيدي وعبير موسى.
التحول الديمقراطي
يرى الدكتور إبراهيم عوض، أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أنَّ السباق الانتخابي يدلِّل على أنَّ تونس قد خطت خطوات مهمة على طريق التحوُّل الديمقراطي.
ويضيف أنَّ هناك تياريْن رئيسييْن في تونس هما تيار "إخواني" وتيار "علماني" وبداخل كلٍّ منهما انقسام؛ فقد يجنح المرشحون "الإخوان" والعلمانيون إلى اليمين أو اليسار، ولعل أقرب المرشحين للوصول لقصر قرطاج هو يوسف الشاهد.
المواقف الحقيقية والبرامج الانتخابية
يرى الدكتور أيمن سمير، الباحث في العلوم السياسية، ضرورة تصنيف المرشحين ليس على أساس انتمائهم المعلن وإنما طبقًا للمواقف الحقيقية والبرامج الانتخابية والتصريحات الإعلامية.
فالمرشح للرئاسة التونسية المنصف المرزوقي على سبيل المثال، يجري تصنيفه على أنه ينتمي إلى تيار اليسار رغم أنَّ مواقفه السياسية وتصريحاته منذ 2014 تتماهى بصورة جلية مع جماعة الإخوان ربما بشكل يفوق مرشح "الإخوان" عبدالفتاح مورو.
وفي هذا الاتجاه ذهب الدكتور عمرو الشوبكي للقول إنَّ البعض قد يصنِّف المنصف المرزوقي باعتباره يساري التوجُّه لكنه متحالف عقائديًا وفكريًا مع "التيار الإخواني"؛ لدرجة أنَّ تصريحات حركة النهضة تبدو في أحيان كثيرة أكثر تعقُّلًا من راديكالية المرزوقي.
البدائل البرامجية المطروحة أمام الناخب التونسي
قال الدكتور محمد صفي الدين إنَّ الوسائل التي لجأ إليها مرشحو الرئاسة التونسية لاستقطاب الجماهير متعددة؛ إذ عمد بعضهم إلى تنظيم لقاءات تشبه المؤتمرات الجماهيرية التي تحتاج قدرًا كبيرًا من القدرة التنظيمية وتوفير الموارد المالية.
ويضيف أن ثمة مرشحين لجأوا إلى النزول للشارع والتواصل مباشرةً مع الجماهير، وهم ممِّن لا يتوافر لهم دعم مالي يمكّنهم من تنظيم مثل تلك اللقاءات الجماهيرية واسعة النطاق.
ويضيف د. خربوش أنَّه لا توجد فروقات ضخمة في الحملات الانتخابية والبرامج المطروحة أمام الناخبين، وركَّزت المناظرات التي عُقِدت بين مرشحي الرئاسة على التساؤلات المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية على اعتبار أنَّ رئيس الجمهورية لا علاقة له بالاقتصاد.
واستطرد: السباق الانتخابي ليس سباقًا ساخنا وإنما تعتريه الرتابة، وهذا الأمر يبدو جليًا في المناظرات بين المرشحين، والتي شهدت أداءً "باهتًا" للمرشحين مما يجعل من إمكانية توقُّع النتيجة أمرًا صعبًا بدرجة كبيرة.
وينتهي الدكتور خربوش إلى القول بأنَّ هناك مؤشرات على انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات، وهذا قد يصب في مصلحة "التيار الإخواني" ويجعل من وجوده في الجولة الثانية للانتخابات أمرًا شبه محسوم.
صدارة المشهد الانتخابي التونسي
يرى محمد حافظ، الباحث في العلوم السياسية، أنَّ هناك حملات انتخابية احتلت صدارة المشهد الانتخابي التونسي لثلاثة مرشحين أبرزهم نبيل القروي؛ إذ اضطلع القروي بحملة انتخابية منظمة بدأت بطبع وتوزيع برنامجه الانتخابي، وقد وصلت حملته الانتخابية واللقاءات التي عقدها إلى مختلف الأقاليم التونسية.
أما المرشح الثاني عبدالكريم الزبيدي الذي استخدم التصريحات الإعلامية لاستقطاب الناخبين، تمحورت تصريحات عن دوره في حماية تونس من انقلاب عقب وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي فضلًا عن ظهوره مرتديًا حلة عسكرية.
في المقابل، بحسب الباحث السياسي، يدير المرشح يوسف الشاهد حملته الانتخابية باحتراف من خلال اعتماده على الطاقات الشبابية وعقد لقاءات جماهيرية أبرزها لقاء نظمته حملته في مدينة صفاقس صاحبة أكبر كتلة تصويتية بالانتخابات، وقد حضره نحو 6 آلاف شخص، فضلًا عن لقاءات جمعته مع الشباب والسماع إلى أطروحاتهم بشأن إدارة شؤون الدولة ومشكلاتهم.
حملات تقليدية مؤدلجة
رغم كثافة المرشحين الذين يخوضون السباق الانتخابي التونسي وخبرة الغالبية العظمى منهم بالعمل السياسي إلا أنَّ كرم سعيد الباحث في الشأن التركي، أكَّد أنَّه ليس ثمة مرشح قادر على طرح أجندة تلامس قضايا وهموم المواطنين.
ويرى سعيد أن الحملات الانتخابية حملات تقليدية مؤدلجة ما بين "معسكر الإخوان" واليساريين والليبراليين. وليس هناك أي مرشح، حتى وقتنا الراهن، نجح في أنْ يجمع توجُّهات سياسية مختلفة أو يخلق أرضية مشتركة بين مختلف التيارات السياسية.
ويضيف سعيد أنَّه في ظل عدم طرح القضايا الاقتصادية، التي هي أهم ما يعني المواطن التونسي، تفقد الانتخابات كثيرًا من حيويتها؛ ذلك لأنَّ الاقتصاد يظل المحدد الرئيسي لتوجهات الناخبين في الدول التي تعاني مشكلات وأزمات اقتصادية هيكلية.
مناظرات المرشحين
تطرَّق الدكتور أيمن سمير أستاذ العلوم السياسية إلى المناظرات بين مرشحي الرئاسة التونسية؛ معتبرا أنها جيدة جدًا من حيث الشكل لكن لم نر فيها ما حدث في المشهد الأمريكي حيث ظاهرة "القادمون من خارج المشهد" حتى ولو ارتأى البعض أنَّ ًهذه الظاهرة متمثِّلة في المرشح نبيل القروي؛ فالقروي احتل المرتبة الثالثة وليست الأولى طبقًا لاستطلاعات الرأي.
ويضيف سمير أنَّ هناك أهمية كبرى للمناظرات في هذا التوقيت الفارق؛ إذ إنها ربما تشكِّل محركًا رئيسًا لكتلة الجماهير الصامتة والعازفة عن المشاركة الانتخابية.
ورأت نيفين مسعد أنَّ المناظرات بين مرشحي الرئاسة كانت جيدة من حيث الشكل لكنها من حيث المضمون لم تكن كاشفة؛ لأنَّ أسلوب إدارة النقاش أو المناظرة كان يعتمد على توجيه أسئلة مختلفة لكل المرشحين، وبالتالي من الصعب على المتابع للمناظرة أنْ يقارن بشكل واضح بين توجُّهات ومواقف المرشحين تجاه أية قضية أو ملف بعينه.
الموقف الأمريكي والفرنسي
في معرض الحديث عن التأثير الأمريكي–الفرنسي على الانتخابات الرئاسية التونسية، يرى الدكتور أيمن سمير أنَّ الولايات المتحدة تنتهج أسلوب "القيادة من الخلف" فيما يتعلق بسياستها تجاه دول المغرب العربي، وترك الأمر للأوروبيين لاعتقادها أنَّ مصالحها تتماس بشكل مباشر مع المصالح الأوروبية، ومن ثم سيتولى الأوروبيون تأمين المصالح الأمريكية-الأوروبية في المغرب العربي ولا حاجة للتدخُّل الأمريكي المباشر في قضايا دول الشمال الأفريقي.
وأضاف سمير أنَّه ليس ثمة تنافس أمريكي-أوروبي في المغرب العربي، وأنَّ فرنسا هي الوكيل الحصري لمصالح الولايات المتحدة في المغرب العربي، وستستمر هذه السياسة الأمريكية خلال الفترة المقبلة ما لم يتولَّ السلطة في تونس شخص متطرف، في إشارة إلى "التيار الإخواني"، يعيد حالة الاستقطاب في تونس، أو تكون له سياسات تزيد وضع منطقة الشرق الأوسط تعقيدا.
بدوره، يرى الدكتور محمد صفي الدين أنَّ يوسف الشاهد يبدو المرشح الأقرب إلى فرنسا، وقد اختار أنْ يبدأ حملته الانتخابية من المدن الفرنسية. فيما عدا ذلك لا تتحدث الدول الغربية عن دعمها المباشر لأي من المرشحين.
غياب الإجماع بين مراقبي المشهد الانتخابي التونسي
اختتم الدكتور علي الدين هلال بالتأكيد على أنَّ غياب الإجماع بين مراقبي المشهد الانتخابي التونسي على طرح اسم مرشح قادر على حسم الانتخابات يدلِّل على أن الانتخابات ساحة مفتوحة غير محسومة النتائج، وحالة عدم التيقن تلك تُعَد مؤشرًا على أننا بصدد عملية انتخابية ديمقراطية.
ويضيف الدكتور هلال أنَّ الانتخابات الرئاسية الراهنة تؤكِّد نجاح الدولة التونسية في تحقيق "الانتقال الديمقراطي" (Transition to democracy) أي تحطيم البنى السلطوية من قبيل الأجهزة القمعية والسلطات المطلقة لرئيس الدولة إنما لم تحقِّق بعد "الرسوخ" الديمقراطي democratic consolidation .
وختاما يقول الدكتور علي الدين هلال الذي أدار الحلقة النقاشية التي نظمتها "العين الإخبارية": "لعل الانتخابات الرئاسية الحالية تدشِّن لبداية مرحلة رسوخ الديمقراطية بتونس".