ذكرى الانقلاب المزعوم.. احتفالات بتكريس السلطوية "1-2"
تمكن الرئيس التركي من توظيف الانقلاب المزعوم في تحقيق مجموعة من المكاسب وتدعيم سلطته، وشن حملات اعتقال عديدة.
مثّل الانقلاب المزعوم الذي حدث في صيف 2016 نقطة تحوّل بالنّسبة إلى تركيا، حيث أدى إلى تكريس السلطوية، وإعادة تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات الرئيس أردوغان، الذي نجح في توظيف الانقلاب لتأميم سلطانه، وإقصاء معارضيه.
وتمكن أردوغان من توظيف محاولة الانقلاب المزعومة في تأمين نفوذه، فقد اعتبر أن هذه المحاولة التي أفضت إلى مقتل نحو 300 شخص، وجرح أكثر من 2000 شخص "نعمة من الله"، كونها منحته مزيداً من السيطرة على الدولة. كما وظف أردوغان محاولة الانقلاب لتعزيز توجهاته الخاصة بتغيير الدستور وتركيز السلطة في يده، وظهر ذلك في تمرير التعديلات الدستورية في أبريل/نيسان عام 2017، والتي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي.
على صعيد ذي شأن، واصلت الحكومة تصفية معارضيها بتهمة الارتباط بجماعة "خدمة"، التي تتهمها بتدبير الانقلاب المزعوم. وتشير الإجراءات التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عشية الانقلاب المزعوم إلى أن البلاد باتت أمام هيكلة جديدة لبنية النظام عسكريا وأمنياً وسياسياً، كشف عنها توقيف واعتقال الآلاف من العسكريين والأكاديميين والقضاة والصحفيين والموظفين بتهمة الانتماء إلى جماعة "غولن" ناهيك عن إعادة تنظيم الجيش، على نحو ضمن خضوعه للسلطة التنفيذية، وفكك مركزيته بما يضمن سلب قدرات المؤسسة العسكرية للتحرك بفاعلية ضد حكومة العدالة والتنمية.
سلوك الحكومة التركية عشية الانقلاب، والتلويح بعودة عقوبة الإعدام التي توقف العمل بها منذ عام 1984 وأُلغيت قانونياً في العام 2004، دعت المفوض الأوروبي لشؤون توسيع الاتحاد إلى تجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
ولا تزال السلطات التركية بعد مرور 3 سنوات على الانقلاب المزعوم تشن حملة قمع ضد كل من يشتبه في تورطهم في المحاولة، بما في ذلك أنصار رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط للمحاولة.
انقلاب مزعوم: مؤشرات دالة
شهدت تركيا في صيف 2016 محاولة انقلابية استهدفت، بحسب الرئيس التركي، إطاحته وإسقاط نظام العدالة والتنمية، الذي يحكم البلاد منذ العام 2002. وعلى الرغم من مرور 3 سنوات على الانقلاب، لكن ما زالت شكوك واسعة بجانب دلالات عدة تكشف عن تورط حكومة العدالة والتنمية في الانقلاب؛ أولها حديث رئيس جهاز الاستخبارات الألماني "برونو كال" مع مجلة "دير شبيجل" في 18 مارس/آذار 2017، والذي قال فيه: إن "الحكومة التركية لم تستطع إقناع جهازه بأن غولن وقف وراء محاولة الانقلاب". كما رفض "كال" اتهامات تركيا جماعة غولن بأنها "حركة إسلامية متطرفة" أو "حركة إرهابية"، ووصفها بـ"جمعية مدنية للتخصص الديني والمدني".
وأضاف كال: "إن المحاولة الانقلابية شكلت فرصة سانحة للرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية لتنفيذ حملة تطهير في البلاد". وتابع: "ما شاهدناه كمحصلة للمحاولة الانقلابية ما كان ليحتاج إلى كل هذا المقدار من رد الفعل الراديكالي في التعامل مع الوضع الداخلي".
وثانيهما أن أفعال الحكومة التركية تتسم، منذ المحاولة الانقلابية وحتى اليوم، بالعقاب الجماعي، وذلك دون أي سند قانوني أو أي دليل يثبت تورط بعض المعتقلين في المحاولة الانقلابية المزعومة.
وفي سبيل تبرير خطة التطهير وإيجاد غطاء شرعي لما ستفعله الحكومة بعد ذلك، لجأت الحكومة التركية إلى استخدام معلومات خاطئة وبيانات زائفة من أجل تهييج وشحن المشاعر لدى المواطنين الأتراك، وحتى اليوم تحجب السلطات التركية أي حديث أو شهادات تصدر من الضباط المعتقلين المعروفين بالكماليين أو القوميين الجدد، باعتبار أن شهادات هؤلاء من شأنها أن تناقض القصة الرسمية للحكومة.
وراء ما سبق أيدت معلومة جديدة كُشف عنها مؤخراً وصف الانقلاب بالمدبر، وهي أن بيان الانقلابيين تم بثه على قناة مملوكة لصهر أردوغان، وفي الوقت نفسه كانت ثمة تعليمات بالسماح للوزراء السابقين في حكومة العدالة والتنمية والشخصيات العامة بالظهور الإعلامي، ودعوتهم المواطنين للنزول لمواجهة الانقلاب.
وكشف موقع "نورديك مونيتور" في مايو/أيار 2019 عن أنه حصل على وثائق، نشر صورا لبعضها، تثبت أن الأدلة التي تم الاعتماد عليها في توجيه تهم للكثيرين من الأتراك، خاصة العسكريين منهم، كانت تشوبها الكثير من الأخطاء.
ويرتبط المؤشر الرابع بغياب الذريعة التي طالما وفرت بيئة حاضنة لكل الانقلابات التي شهدتها تركيا منذ ستينيات القرن الماضي، حيث كانت الانقلابات العسكرية السابقة تتذرع بالانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية والانقسام المجتمعي الحاد والأحداث الأمنية الخطيرة (وأحياناً كانت تفتعل بعضها) وتقدم نفسها كحامية للبلاد من الانهيار أو الحرب الأهلية.
لكن في ظل الهيمنة المطلقة على المشهد السياسي، والاقتصاد الجيد رغم بعض الهزات، يمكن القول إن أي انقلاب عسكري في الظروف الحالية أو المشابهة يفتقد للذريعة الرئيسية، وحدوثه لا يمكن أن يتم بمعزل عن أركان السلطة.
توظيف الانقلاب
تمكن الرئيس التركي من توظيف الانقلاب المزعوم في تحقيق مجموعة من المكاسب:
تمكين سلطته وتدعيم مكانته بشكل كامل، حيث قدم نفسه كمخلص أسطوري للأمة التركية "أتاتورك القرن الحادي والعشرين". وأصبح توجه أردوغان نحو الفردية أكثر وضوحاً لتثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة، وكان بارزاً هنا تحويل البلاد لجهة النظام الرئاسي، كما استغل أردوغان محاولة الانقلاب المزعومة، واعتبرها فرصة ذهبية من أجل الإسراع في القضاء على حركة الخدمة ومصادرة مؤسساتها الاجتماعية والتعليمية، بالإضافة إلى مصادرة الأموال والممتلكات الخاصة ببعض رجال الأعمال المتعاطفين معها.
إزاحة الخصوم: نجح الرئيس التركي في إزاحة جميع خصومه من المشهد عبر تسويق نظرية "المؤامرة"، واتهام خصومه بالعمل لإسقاط تركيا لخدمة أجندات خارجية، فبدلا من فتح تحقيق عادل في هذه المحاولة، قامت الحكومة التركية والرئيس أردوغان منذ الانقلاب بعملية تطهير شاملة في كل مؤسسات الدولة، وكشف تقرير مركز ستوكهولم للحريات، الصادر مطلع العام 2019 عن سجن أكثر من 260 ألف شخص، وأشار التقرير إلى أن السجون التركية البالغ عددها 385 سجناً تشهد اكتظاظا كبيرا.
إعادة هيكلة الجيش: وفر الانقلاب المزعوم فرصة مواتية لإعادة هيكلة النظام العسكري، ويسعى الرئيس رجب طيب أردوغان بكل ما يملك من قوة سياسية ودستورية إلى إحكام سيطرته الكاملة على المؤسسة العسكرية، تلك المؤسسة الوطنية الأقدم والأعرق في حياة تركيا منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923.
فإلى جانب حملة الاعتقالات المتواصلة، والتي طالت نصف قيادات الجيش التركي تقريباً، ونحو 10 آلاف جندي وضابط صف وعنصر أمن، اتخذت القيادة التركية خلال السنوات الثلاث الماضية سلسلة قرارات شاملة، كانت نتائجها مدوية على المؤسسة العسكرية، حيث أصبحت مؤسسة الرئاسة صاحبة القول الفصل لجهة تحديد الدور والوظيفة للمؤسسة العسكرية، وبرز ذلك في توسيع بنية المجلس العسكري الأعلى (مجلس الشورى العسكري) ليشمل وزراء الداخلية والعدل والخارجية، كما تم إغلاق الكليات والمدارس والمعاهد العسكرية، وبناء جامعة باسم جامعة الدفاع الوطني تتولى مهام تدريب عناصر الجيش بدلاً من هذه الكليات والمدارس والمعاهد، على أن يكون تعيين رئيس تلك الجامعة من صلاحية الرئيس رجب طيب أردوغان.
أيضا ألغت وزارة الدفاع التركية في 22 فبراير/شباط 2017 الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في صفوف المجندات في الجيش وطالبات المدارس العسكرية خلال القيام بمهامهن الوظيفية. كما ألغت السلطات التركية في يناير/كانون الثاني 2017 قانون حظر ارتداء الحجاب للنساء العاملات في قيادتي خفر السواحل والدرك التابعتين لوزارة الداخلية.
وفي إطار عملية إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية سمح بدخول المحجبات من عائلات الجنود إلى دور ونوادي القوات المسلحة، ويعد قرار وزارة الدفاع بإلغاء الحظر على الحجاب خطوة أولى من نوعها منذ إعلان قيام الجمهورية التركية في عام 1923.
استدارة السياسة الخارجية: كشفت التحركات على الساحة الإقليمية في مرحلة ما بعد الانقلاب عن أن السلطات التركية استهدفت التخلص من كافة مراكز القوى "مدنية وعسكرية" التي عارضت الانخراط التركي في أزمات الإقليم، وبخاصة سوريا وليبيا والعراق ومصر.