تاريخيا لم يختبر الجيش التركي في مواجهات حقيقية مع جيوش نظامية في الإقليم، بل ولم يعرف عنه أنه حارب وانتصر وفرض وجوده الاستراتيجي.
تتوهم السياسة التركية الراهنة لحزب العدالة والتنمية، بأنها تحقق حضورا كبيرا في الإقليم وخارجه من خلال دور تدخلي مباشر في قضايا الإقليم، ومحاولة استنساخ التجربة العثمانية غير الإيجابية، والتي ما تزال ماثلة في أذهان المفكرين العرب الذين يؤرخون للوجود التركي في العالم العربي، والتي توهم الرئيس التركي أردوغان وحفنة من قيادات الحزب بأنهم بناة تركيا الجديدة، والتي وفقا لمخيلاتهم المريضة تجعلهم يظنون أن لديهم المقدرة والإمكانيات على أن يكونوا لاعبين حقيقيين في قضايا العالم العربي، بل ومحركين لأحداثه برغم كل ما يواجهه حزب العدالة والتنمية من فشل راهن، وانشقاق مستمر من داخل الحزب احتجاجا وتحفظا على ما يجري من ممارسات هذا الرئيس وفشله الحقيقي في مواجهة الأزمات المتلاحقة التي تواجهها بلاده في الداخل، ولا علاقة لها بمقاييس نظرية أو حسابات اقتصادية أو معطيات جامدة استراتيجية .
تاريخيا لم يختبر الجيش التركي في مواجهات حقيقية مع جيوش نظامية في الإقليم، بل ولم يعرف عنه أنه حارب وانتصر وفرض وجوده الاستراتيجي المعاصر في العالم العربي بل ومع دول جواره، حيث اكتفى في السنوات الأخيرة بممارسة دور تدخلي والسعي لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني منذ سنوات طويلة سواء في العراق أو سوريا، ومع ذلك لم يحقق نصرا بل واجه انتكاسات متتالية، وأذكر هنا أن حزب العمال الكردستاني منذ نشأته في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ظل وحتى الآن شوكة في خاصرة الحكومات التركية المتعاقبة، ونجح في مواجهة حزب العدالة والتنمية وأفشل كثيرا من مخططات الرئيس أردوغان، وكان الحزب قد تلقى الحزب ضربة معنوية عام 1999 باعتقال زعيمه عبد الله أوجلان، وسجنه في تركيا بتهمة الخيانة لكن ذلك لم يؤثر على نشاط أو قوة الحزب وعاد قويا ومؤثرا وظل في مناكفة مستمرة مع الحكومة التركية، فكيف للدولة التركية التي تدعي القوة أن تعجز عن حسم ملف حزب العمال الكردستاني، وما زالت المواجهات التركية مع الحزب في العراق وسوريا مستمرة، وفشل الرئيس التركي ورفاقه في حزب العدالة والتنمية - الذين يسعون لاستعادة دور الدولة العثمانية- في حسم الأمر لصالح الحكومة التركية .
والسؤال كيف لدولة تتحرك في دوائر متقاطعة متعددة في عدة عواصم عربية، وتدعي أنها يمكن أن تكون لاعبا قويا مؤثرا في الإقليم وتناطح القوى الكبرى، وتفشل حتى في مواجهة حزب مهما أوتي من قوة، والرسالة الأخرى الموازية للفشل التركي في أن الداخل التركي المتردي من وضع اقتصادي ضعيف، وانهيار في القوة الشرائية للعملة الوطنية، ووجود حالة من عدم الاستقرار الداخلي، واستمرار ملاحقة كتاب الرأي والفكر، وإسكات أصوات المعارضة التركية في البرلمان وخارجه تحت زعم أن تركيا تخوض مواجهات كبرى في الإقليم، مما يتطلب العمل على توحيد الصف وتعلية إطار الصوت الواحد، في مواجهة ما يجري من مطالبات بدور حقيقي للمجتمع المدني والقوى الوسيطة المتعددة في الداخل التركي، الذي لم يعد لها دور في ظل ممارسات غير مسبوقة لحزب العدالة والتنمية، وللزمرة التي تحكم بجوار الرئيس أردوغان، وتؤمن بدور وهمي لا وجود له في الإقليم من خلال التدخل في ليبيا والعراق وسوريا بدليل ما جرى من ممارسات غير مسبوقة وتصعيدية في الشأن الليبي، والتهجم على مواقف الدول العربية الراسخة، والتي لم تتغير في ليبيا منذ اندلاع الأزمة هناك، والتي ليس لها مصالح اقتصادية مخطط لها، أو مشاريع إعمار، أومسعى للسطو على ثروات شعب عربي بات شطر منه مواليا للجانب التركي، ويستقوي به، وهو الساعي لنهب ثروات شعبه، حيث الصراع الأكبر على الغاز والنفط والطمع الأكبر في ثروات ليبيا، ومنها إلى شرق المتوسط حيث المواجهات المفتوحة، والسيناريوهات الكبرى التي لم تحسم، بل وتسعى السياسة التركية وانطلاقا من تزكية الصراع الراهن إلي تطويره وتفعيله من أجل أن يكون لها وجود استعماري ليس في ليبيا فقط بل وفي المنطقة المغاربية، وفي الجنوب الأفريقي، حيث تمتد علاقات تركيا بالتنظيمات الإرهابية الفرعية من خلال شبكات التجنيد والتعامل في الأسواق السوداء الشهيرة في مجالات متعددة، وهو ما يدفع بوجود تركيا في أغلب التحركات الاقتصادية والمالية غير المشروعة في الإقليم، والتي تتم تحت سواتر وهمية.
إن السياسة التركية الراهنة تحكمها معايير النفعية والمصلحة على المستوى الخارجي، والتسلطية والأوتوقراطية والشمولية على المستوي الداخلي، الأمر الذي يتطلب موقفا عربيا مباشرا في وجه الأطماع التركية، ومسعاها لنهب ثروات الدول العربية، ومجابهة ما يجري في العراق وسوريا وليبيا، ولعل الدول العربية المرشحة للقيام بهذا الدور السعودية ومصر والإمارات، وهي تقوم بدورها إحقاقا للحق في ظل غياب الدور الفاعل للجامعة العربية - عبر استراتيجية متنوعة المسارات ومتعددة الاتجاهات، وهذا ما يفسر الهجوم التركي على مواقف هذه الدول ومحاولة خلط الأوراق وانتقاد سياساتها الداعية لحماية الأمن القومي العربي بالأساس في مواجهة السياسة التركية الفاشلة داخليا، والساعية للعب دور بديل في مجال السياسة الخارجية عما يجري في الداخل، مع معاناة تركيا من حالة عدم الاستقرار السياسي والانهيارات الاقتصادية التي تشهدها، ولا علاقة لها بالتصنيفات النظرية في مؤشرات التنمية، وقدرات الدول والتي تأخرت فيها تركيا كثيرا في السنوات الأخيرة، وتحديدا آخر عامين .
الخلاصة أن المواقف التركية التدخلية في الدول العربية، وعلى رأسها سوريا وليبيا تعبر عن نهج عدواني لا وجود له في أسس العلاقات الدولية، ويكشف فعليا عن ممارسات دولة إرهابية، وقيادات سياسية وعسكرية غير ملمة بما يجري حولها، وعليها أن تطالع جيدا تاريخ العلاقات العربية التركية لتعرف أن مسارات ما تتحرك من خلاله في الوقت الراهن سيكون مصيره الفشل والإخفاق والانكسار، كما جرى في مراحل سابقة - لعل البعض من الذين يتولون مواقعهم في حكومة أردوغان - لا يلمون بتفاصيلها .
نصيحة للساسة الأتراك ولحزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان أن يتعلم كيف تبنى العلاقات الدولية، وكيف تتحدد المصالح المشتركة، ولماذا تقف قوى عربية راسخة في الإقليم لتدافع عن الأمن القومي العربي، ليس فقط في ليبيا وإنما أيضا في سوريا والعراق، وفي كل ربوع العالم العربي في مواجهة أية تدخلات تركية قائمة ومحتملة، ولن نزيد .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة