بعد استقالة داود أوغلو.. العدالة والتنمية في تركيا إلى أين؟
استقالة أحمد داود أوغلو تؤكد أن تركيا باتت على أعتاب مرحلة كبيرة من التغيير، عنوانها الأبرز أفول عصر حزب العدالة والتنمية.
يبدو أن الخريف القادم لن يكون اعتيادياً لحزب العدالة والتنمية في تركيا، مع قرب ميلاد حزبين سياسيين جديدين من رحم العدالة والتنمية، يستهدفان دون شك القاعدة الجماهيرية للحزب الحاكم.
وفي صدارة ذلك حركة سياسية برئاسة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق الذي استقال من الحزب الحاكم في 13 سبتمبر/أيلول الجاري مستبقاً قرار إقالته بعد إحالته مطلع الشهر إلى لجنة تأديبية، وانتقد مجددا قدرات الحزب على الحكم.
استقالة داود أوغلو الذي وجه انتقادات حادة للحزب الحاكم، زادت من تململ العدالة والتنمية، ورسخت حالة الانقسام داخله، وهو ما ينذر بتصدع بنيان الحزب، وقد يسهم في تآكل رصيده التقليدي.
لذا يرى داود أوغلو أن استقالته كانت ضرورة للحفاظ على القواعد المخلصة لحزب العدالة والتنمية، وأنه يحمل مسؤولية تاريخية للبدء بتأسيس كيان سياسي جديد، خاصة أن العدالة والتنمية الذي شارك في تأسيسه في عام 2001، انحرف عن مبادئه، وأصبح قادته أكثر ميلاً لترسيخ الممارسات السلطوية.
دلالات الاستقالة
وكشفت استقالة أحمد داود أوغلو عن دلالات عدة، يمكن بيانها على النحو الآتي:
تصاعد الانشقاقات:
تأتي استقالة أحمد داود أوغلو لتؤكد مرة أخرى على أن الرصيد التقليدي للحزب الحاكم في صفوف ناخبيه، وبخاصة القواعد المحافظة يتراجع تدريجياً، وبدا ذلك في استقالة كل من بشير أتالاي ونهاد أرقون وسعد الله أرقين، خلال الفترة الماضية.
والأرجح أن الانشقاقات التي تضرب العدالة والتنمية تعود بالأساس إلى رفض تيار واسع من عناصر الحزب للتوجهات السلطوية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإصراره على الإمساك بمفاصل المشهد.
وبدا ذلك في تعيين صهره بيرات البيراق وزيراً للمالية، وعزل محافظ البنك المركزي في أغسطس/آب الماضي بعد معارضته خفض الفائدة.
كما تجلت هيمنة أردوغان في إقالته أحمد داود أوغلو في مايو/أيار 2016، الذي لم يكن متحمساً ولا مقتنعاً بالتعديلات الدستورية التي أجريت في أبريل/نيسان 2017، وحولت البلاد لجهة النظام الرئاسي، وقال خلال فترة وجوده في موقع رئاسة الوزراء "النظام الرئاسي أولوية، لكن إذا لم يكن فرضه ممكناً في البرلمان فلا مجال للإصرار عليه".
في سياق متصل اعتمد أردوغان على معيار الولاء في تعيين الكوادر الإدارية والأمنية والعسكرية داخل المؤسسات التركية.
تهديد أصوات الحزب في الانتخابات المقبلة:
تؤكد استقالة داود أوغلو أن تركيا باتت على أعتاب مرحلة كبيرة من التغيير، عنوانها الأبرز "أفول العصر الذهبي" لحزب العدالة والتنمية.
ويقف الحزب الحاكم على مفترق طرق، بعد تراجع رصيده الانتخابي، وهو ما كشفت عنه الهزائم التي مُني بها الحزب في الانتخابات المحلية التي أجريت في نهاية مارس/آذار الماضي، وخسارته عددا معتبرا من المدن الكبرى في الصدارة منها إسطنبول، والذي فاز بها مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو في جولة الإعادة التي أجريت في يونيو/حزيران الماضي، وبفارق نحو 800 ألف صوت عن بن على يلدريم مرشح أردوغان.
في هذا السياق العام، قد يشهد عام 2023 أفول عهد أردوغان بدلاً من إعلان تركيا الجديدة، في ظل تراجع التأييد للحزب، وتراجع صورته الذهنية في الوعي الجمعي العام.
أفول العدالة والتنمية:
لا شك أن تصاعد احتمالات فشل العدالة والتنمية في الحفاظ على الصدارة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، قد تلقي به إلى مصير أحزاب مؤسس تيار الإسلام السياسي نجم الدين أربكان.
ففي يوليو/تموز الماضي، وبعد مرور 18 عاماً على ذهاب أردوغان هو ومجموعة من حزب "الفضيلة" لأربكان، لإخباره بقرار ترك الحزب، يستقيل أوغلو معلناً تأسيس حركة سياسية جديدة، ومن قبله على بابا جان وزير الاقتصاد السابق، ومهندس النهضة الاقتصادية التركية الذي قرر مغادرة الحزب، ومعه عبدالله غل، وآخرون من القيادات التاريخية للحزب.
فتح المجال للخصوم:
منحت استقالة أحمد داود أوغلو مساحة أكبر للمعارضة على الساحة السياسية، من خلال استثمار أزمة الحزب الداخلة، وكشف ضعف قدرته على الأداء. وقد ساهمت سياسة أردوغان تجاه معارضيه في رفع رصيدهم السياسي.
وظهر ذلك في صعود نجم رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش، ورئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو، وكلاهما نجح في تقديم خطاب سياسي مغاير لخطاب أردوغان الشعبوي من دون تجاهل قاعدة حزب العدالة والتنمية المحافظة، وقد ساعدتهم هذه المقاربة على توسيع حضورهم بالسحب من رصيد الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
في المقابل عملت المعارضة التركية على استثمار استقالة داود أوغلو، فمن جهته علق حزب الشعب الجمهوري على الاستقالة على لسان يلدريم قايا، نائب رئيس الحزب، والذي قال "لم يكن داود أوغلو هو المستقيل بمفرده، فهناك كل يوم استقالات بالمدن التركية المختلفة من العدالة والتنمية، كلهم شاهدوا حجم الانهيار الذي بات عليه الحزب الحاكم".
وأضاف "لقد بات المجتمع التركي ينتظر من ذلك الحزب حل مشاكله، فإن كان لديه الجديد فليقدمه، وإلا فليرحل في صمت".
مسارات قلقة
ثمة سيناريوهات محتملة لواقع ومستقبل العدالة والتنمية، ومستقبل الرئيس أردوغان الطامع للبقاء في المشهد حتى عام 2023.
تصدع الحزب وتفككه:
فرضية تفكك وانهيار العدالة والتنمية لا يمكن استبعادها، حيث انزلق الحزب إلى متاهات الاصطفاف السياسي فضلاً عن اعتماده على شركاء متشددين، مثل حزب الحركة القومية.
كما تراجعت الصورة النمطية للحزب لدى قواعده التقليدية، بفعل الأمراض التي استشرت في جسد الحزب، ولخصها داود أوغلو في "الاستعلاء على الشعب، والخصام مع مبادئ الحزب، وانفراد أردوغان بكل الأمور، واستخدامه خطابا استقطابيا مروعاً، والسماح بتدخل أسرته في الحكم".
خسارة الحزب ورئيسه رصيداً وافراً من تعاطف الشارع التركي، كشف عنه تراجع عضوية الحزب، ففي يوليو 2019 بلغ عدد أعضائه نحو 9 ملايين و991 ألف عضو، انخفض هذا الرقم إلى 9 ملايين و874 ألف عضو في 6 سبتمبر الجاري، وهو ما يعنى أن الحزب الحاكم خسر خلال نحو شهرين 59 ألفا و260 عضوا.
تتصاعد أيضا فرص هذا السيناريو مع سيادة حالة من الفوضى والاستقطاب والتوتر السياسي في ظل استمرار أعمال العنف والاحتجاجات في مناطق جنوب شرق تركيا فضلاً عن التدهور على كافة الأصعدة، وهو الأمر الذي يتيح المجال لتتحول تركيا إلى "دولة مترهلة"، وتنهار تجربة العدالة والتنمية.
استمرار الانشقاقات داخل الحزب:
أدت سياسات الرئيس أردوغان الذي اعتمد معيار الولاء في تعيين الكوادر الإدارية والأمنية والعسكرية داخل مؤسسات الدولة التركية، إلى تصدع الحزب من الداخل، وكان بارزاً، هنا، حدوث انشقاقات متتالية داخل الحزب، خاصة بعد إحالة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق للتأديب وآخرين تمهيداً لفصلهم.
التململ من سياسات الحزب لم يقتصر على داود أوغلو، فقد سبقه الرئيس السابق عبدالله غل، والذي وجه انتقادات حادة لنهج أردوغان في إدارة البلاد. كما أقدم علي باباجان وزير الاقتصاد السابق على الاستقالة، وإعلان نيته تأسيس حركة جديدة، ورصد في استقالته أوجه انحراف الحزب عن مساره وقيمه التي أُسس عليها.
ويرفض قطاع معتبر من أعضاء ونواب العدالة والتنمية توجه أردوغان نحو الفردانية بهدف تثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل تركيا.
وتمثل الانشقاقات الراهنة داخل الحزب تحدياً غير مسبوق لأردوغان، إذ تتزامن الأزمة داخل الحزب مع فشل التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا إضافة إلى تراجع مناعة البلاد إقليمياً ودولياً، وكان بارزاً، هنا، تجميد الاتحاد الأوروبي في مارس/آذار الماضي مفاوضات لحاق أنقرة بالعائلة الأوروبية بالإضافة إلى توتر العلاقة مع واشنطن بعد مضي الرئيس أردوغان في إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 مع موسكو.
الهجرة من الحزب والبحث عن بدائل:
أدت سياسات الرئيس أردوغان الذي اعتمد معيار الولاء في تعيين الكوادر الإدارية والأمنية والعسكرية داخل مؤسسات الدولة التركية، إلى تصدع الحزب من الداخل، وكان بارزاً، هنا، هجرة قطاع واسع من أعضائه الحزب، والبحث عن بدائل.
وشهد حزب العدالة والتنمية في الشهور الماضية استقالة عدد معتبر من قياداته التي اتجهت نحو بناء حركات سياسية جديدة، فعشية استقالة داود أوغلو في 13 سبتمبر/أيلول الجاري، استقال خمسة من أعضاء البرلمان من حزب العدالة والتنمية.
وقال داود أوغلو إن استقالته وآخرين جاءت "لحماية القاعدة المخلصة من حزب العدالة من حزن مشاهدة زعيمهم وهو يُعزل قررنا الاستقالة من حزبنا الذي أعطيناه أعواما من الكد والتوجيه".
صحيح ليس من المتوقع لأى حزب جديد أن يكون بقوة العدالة والتنمية في بداياته، لكن أحزاب جديدة تضم في جانب علي باباجان وعبدالله غل وسعدالله أرغين وبشير أطالاء وهاشم كليش، وحركة متوقعة بزعامة كيسنجر تركيا أحمد داود أوغلو، لا يعد أمراً مطمئناً لأردوغان وحزبه، في ظل حالة التململ داخل الحزب، وتقارب الحظوظ في المحطات الانتخابية الأخيرة، وفي ظل توحد المعارضة، والقبول الواسع الذي يحظى به علي باباجان وأحمد داود أوغلو في أوساط الحزب وخارجه.
والواقع أن هذا السيناريو هو الأقرب للحدوث لاعتبارات عدة أولها أن الانشقاقات الراهنة داخل الحزب باتت تمثل تحدياً غير مسبوق لأردوغان، إذ تتزامن الأزمة داخل الحزب مع فشل التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا.
وثانيها تراجع مناعة البلاد إقليمياً ودولياً ناهيك عن تفاقم أوضاع الاقتصاد، وتصاعد معدل التضخم إلى نحو 15,6%، ووصول البطالة إلى نحو 13%.
وراء ما سبق، فإن استقالة أوغلو وآخرين، والتوجه نحو تشكيل بدائل سياسية منافسة، سحبت من شرعية وجود الرئيس أردوغان، وفرص بقائه. والأرجح أن قسماً كبيراً من الأصوات التي كان يحصدها أردوغان، وضمنت بقاءه في الصدارة، لم تكن عن اقتناع، وإنما لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل.
صعود المعارضة:
استفادت أحزاب المعارضة من تراجع العدالة والتنمية في الشارع التركي، كما استثمرت مواقف التيار الإصلاحي داخل الحزب، والذي يتبنى خطاباً حاداً تجاه الرئيس أردوغان، وظهر ذلك مثلاً في توبيخ داود أوغلو إصرار أردوغان على إعادة انتخابات إسطنبول التي انتهت بفوز أكرم أمام أوغلو في يونيو الماضي.
كما وجه انتقادات حادة لأردوغان ونظامه في أغسطس/آب الماضي عشية عزل رؤساء البلديات المنتخبين، مؤكدا أنه يدمر الديمقراطية ولا يحترم شعبه.
ونجحت المعارضة منذ انتخابات يونيو/حزيران 2015 في تعزيز حضورها في الشارع التركي، وتصاعد هذا الحضور في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في أبريل/نيسان 2017، والانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران 2018 وصولاً إلى اقتراع البلديات في مارس/آذار الماضي، حيث تراجعت نسب التصويت التي طالما اعتاد عليها العدالة والتنمية، ليفوز بالكاد في كل هذه الاستحقاقات بنسبة 50,5%.
في سياق متصل تمكنت المعارضة من تحقيق نجاحات سياسية معتبرة طوال السنوات التي خلت، منها خلق مساحة مشتركة للتحايل على اختلافاتها السياسية، وبدا ذلك في توافقها على الهوية القومية، وترسيخ حزب الشعوب الديمقراطي لمفهوم المواطنة، وإعلانه أنه يمثل الصوت التركي، وفي القلب منه التيار الكردي.
كما أفرزت وجوه شابة تتمتع بكاريزما وحضور جاذب، مثل صلاح الدين دميرطاش النائب الكردي، وأكرم إمام أوغلو الذي بدا أكثر حيوية وحضوراً ومُمسكاً بالملفات التي يعمل عليها بعد توليه رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
ويمثل دميرطاش وإمام أوغلو شخصيات شبابية وذات تجربة وشعبية واسعة، يستطيعان أن يكونا منافسين في المستقبل، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
aXA6IDMuMTUuMjAzLjI0NiA=
جزيرة ام اند امز