تركيا.. هل بدأت نهاية حقبة "العدالة والتنمية"؟
تتزايد مؤشرات نهاية حقبة العدالة والتنمية، ذلك أن الانتخابات البلدية كشفت أن ثمة "تحولا جيليا" أوشك على الحدوث في تركيا.
انتقد رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان، التي أفضت إلى تراجع دراماتيكي في حضور حزب العدالة والتنمية على المستوى الشعبي بعد نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، وأشار الرجل الذي انتقل من مركز القرار إلى "الهامش السياسي" إلى أن هذه النتائج تأسست على أخطاء حسابات السياسة التي أفضت للتحالف مع القوميين، وأضرت بالحزب الحاكم وأسهمت في تشويه هويته وصورته على المستويين المحلي والدولي، وذلك على نحو ضاعف من التحديات المرتبطة بالوضع الاقتصادي والتوتر السياسي اللذين باتت تعاني منهما تركيا.
تكشف تصريحات أوغلو أن ثمة محاولة لاستغلال "عثرات العدالة" لكي يخرج سياسي الهامش إلى صدارة المشهد التركي مرة أخرى، بعد أن خضعوا خلال الفترة الماضية إلى ما يمكن تسميته حالة "الصمت الإجباري"، بما يشير إلى أن حزب تركيا الحاكم بات يجابه إشكاليات لم يجابهها من قبل، سواء فيما يخص المستقبل السياسي للحزب، أو قدرته على التماسك في مواجهة حقبة سياسية مغايرة آخذة في التبلور، وتوحي مؤشراتها الأولية بأنه قد لا يتمتع فيها بذات الدور المهيمن الذي اضطلع به على مدى العقد ونيف الخاليين.
وتشكل أيضا تصريحات أوغلو غير المسبوقة بشأن القيود المفروضة على وسائل الإعلام وبعض القرارات التي سببت ضررا للمؤسسات التركية، أحد المؤشرات التي توضح طبيعة "الدورات الزمنية للحياة السياسية" في تركيا، والتي تتجدد كل فترة من الزمن بناء على معايير كثيرة يتعلق أهمها بطبيعة الأحزاب القائمة وقدراتها على إدارة خلافاتها البينية، وضمان عدم حدوث انشقاقات داخلية، فضلا عن مهاراتها في تيسير شؤون الدولة على نحو لا يفضي إلى ظهور أحزاب جديدة يكون أحد أهم محركات تأسيسها، بل وصعودها السريع، الرغبة الشعبية في "تجديد النخب"، عبر "تصويت عقابي" ينال مجموعة الأحزاب القائمة وقياداتها التقليدية، ويمثل ذلك، في الغالب، الشرارة التي يليها ظهور دورة حزبية جديدة.
يدرك أوغلو بحسبانه أكاديميا قبل أن يكون سياسيا أن التاريخ التركي يزخر بالعديد من الأحزاب التي صعدت سريعا بعد هزيمة أحزاب عتيقة، حدث ذلك مع حزب "الديمقراطي" بقيادة عدنان مندريس، وتورغوت أوزال، الذي قاد حزب الوطن الأم، ثم حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان، وأخيرا حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وترتبط أغلب الدورات الحزبية في تركيا، من حيث البداية والنهاية، بأحداث رمزية تمثل "ترمومتر" تحول النظام الحزبي، فصعود العدالة والتنمية، على سبيل المثال، لم يتعلق وحسب بعام 2002، وإنما بعام 1994، حينما فاز أردوغان في انتخابات بلدية إسطنبول، وهى الانتخابات التي مهدت الطريق للفوز بانتخابات نوفمبر 2002.
ويبدو أن خسارة هذه البلدية في انتخابات مارس 2019، بالتزامن مع خسارة العديد من البلديات التركية الكبرى قد يمثل نهاية لدورة حزبية هيمن فيها العدالة والتنمية على نحو شبه مطلق، وذلك بالنظر إلى سياق هذه الخسارة ومحركاتها وارتداداتها المحتملة، والتي ربما يكون أحد أهم تجلياتها تصريحات أوغلو الأخيرة.
مؤشرات نهاية حقبة العدالة والتنمية
تتعدد وتتزايد مؤشرات نهاية حقبة العدالة والتنمية، ذلك أن الانتخابات البلدية كشفت أن ثمة "تحولا جيليا" أوشك على الحدوث، ففي الوقت الذي خاض فيه حزب العدالة الانتخابات في مدن تركيا الكبرى بجيل قديم هيمن عليه رئيس وزراء، ومجموعة من الوزراء السابقين، فإن "تحالف الأمة" دفع بمرشحين شباب في البلديات الكبرى، وكانت المفاجأة قدرتهم على إقصاء مرشحي العدالة في اسطنبول، وأنقرة، وأزمير، وأنطاليا، فضلا عن أغلب المدن الساحلية.
لم يكن ذلك مؤشرا على محض بداية "شيخوخة" العدالة ونخبته، وإنما حجم الخسارة الانتخابية ومداها ارتبط بأن الحزب حينما خاض انتخابات اسطنبول رأى أنها مصيرية، وقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان "إن من يخسر اسطنبول يخسر كل تركيا"، ومن أجل ذلك دفع بثاني أهم شخصية في نظامه السياسي لخوض انتخابات البلدية، وهو بن علي يلدريم (63 عاما)، رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء السابق، لذلك، فإن هزيمته على يد أكرم إمام أوغلو (49 عاما) لا تعبر عن حدث عابر، وإنما عن "هزيمة جيلية" لحكم أردوغان في تركيا.
تتزايد أهمية ذلك بالنظر إلى ثلاث محركات أساسية يتعلق أولها بتصاعد ظاهرة التحول من قبل قاعدة الحزب باتجاه الأحزاب الأخرى، سيما أن عددا من قاداتها بات يتبني خطابا سياسيا جاذبا للقاعدة الشعبية المحافظة، وتأسيسا على رفض سياسات الهيمنة التي يتبناها الحزب تجاه مختلف مؤسسات الدولة، خصوصا أن خبرة ما بعد التحول الدستوري (2017)، وتأسيس "النظام السلطوي" في مرحلة ما بعد انتخابات الرئاسة (2018) لم يفض إلى استقرار، بل جعل من حالة التوتر السياسي الحالة السائدة في تركيا، فلم تتراجع وتيرة الاعتقالات، كما لم تتحسن أحوال البلاد السياسية والاقتصادية.
يتداخل أثر ذلك مع ارتدادات المحرك الثاني، حيث طبيعة الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، والتي تشكل، بدورها، محددا رئيسيا لانحيازات المواطنين السياسية، فأحد أهم أسباب الصعود السياسي لأردوغان ورفاقه عام 2002 لم يتعلق بجاذبية خطابهم السياسي، بقدر ما ارتبط ذلك بطبيعة الأزمة الاقتصادية التي جاء على خلفيتها هذا الصعود ودفعت به، وذلك بعدما شهدت الساحة التركية العودة لسياسة تركية أصيلة ارتبطت بـ"التصويت العقابي"، بما أفضى إلى صعود جيل جديد من السياسيين وإقصاء سابقيه.
لا ينفصل ذلك -على جانب آخر- عن أن ثمة قوى خلفية دافعة للصعود السريع للأحزاب في تركيا، وهى تاريخيا ترتبط برجال الأعمال الذين ينخرطون في العمل الحزبي دفاعا عن مصالحهم وليس تجسيدا بالضرورة لقناعات أيديولوجية يتبنونها، والكثير من هؤلاء ومن بينهم عدد كبير، كانوا أو لا يزالون أعضاء في العدالة والتنمية، بيد أن مصالحهم الاقتصادية تضررت من توجهاته الإقصائية وسياساته الاقتصادية، بما بات يدفعهم إلى الدفاع المبكر عن مصالحهم، عبر دعم البديل الذي يجدونه قادرا على تحقيق مصالحهم أو -على أقل تقدير- يمكنه أن يشكل عنصرا ضاغطا لتصويب سياسات الحكومة.
يرتبط بذلك المحرك الثالث، والذي يتعلق بطبيعة المزاج الشعبي المتقلب ضد حكم العدالة، وضعف قدرة الحكومة على المناورة طويلا، بعدما باتت بين شقي الرحي، إما اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لتصويب السياسات الاقتصادية، بما يحمله ذلك من تكلفة سياسية ضخمة، سيما أن أردوغان استخدم هجومه الدائم على الصندوق لتعزيز شعبيته، أو اللجوء لاتباع مجموعة من الإجراءات العاجلة التي تنهي السياسات التوسعية، وتضيف المزيد من الأعباء المعيشية على كاهل المواطن التركي الذي بات يرفض سياسات الحزب، في ظل تصاعد معدلات البطالة، وتفاقم مستويات التضخم، وفيما يؤثر ذلك سلبا على شعبية حزب العدالة، فإن ذلك يحدث في وقت يتصاعد فيه حضور المعارضة التركية تدريجيا، لتبدو أكثر قدرة على تبني سياسات جاذبة للجماهير.
مستقبل نظام تركيا الحزبي
في السياسة كما الاقتصاد العرض يخلق الطلب، بما يعني أنه كلما تدهورت أوضاع البلاد الاقتصادية وضعف الحزب الحاكم، مثل ذلك فرصة سياسية مثالية لتشكل أحزاب تركية جديدة، وربما يكون بديل العدالة، في هذا السياق، يأتي من رحمه كما جاء هو من رحم "الرفاه"، وقد أشارت العديد من التقديرات إلى أن حالة "الصمت الإجباري" التي يخضع لها قادة حزب العدالة السابقين لن تدوم طويلا، وأن ثمة انتظارا للحظة إعلان حزب جديد ربما يأتي بقيادة علي باباجان، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الأسبق، والذي شغل أيضا منصب وزير الخارجية وعمره 36 عاما، قبل أن يختفي من المشهد السياسي في عام 2013، والذي تنسب إليه الطفرة الكبرى في الاقتصاد التركي في الفترة ما بين أعوام 2002 إلى 2011.
وقد يلعب الرئيس السابق عبدالله جول، أدوارا مركزية في الدفع بهذا الاتجاه، ويمكن أن ينضم له رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، فضلا عن نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية محمد شيمشك، الذي استكمل مسيرته، وأبعد من المشهد أيضا عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة.
ثمة تلميحات، في هذا الإطار، صدرت عن الصحافي التركي أتيان محجوبيان، المستشار السابق لداود أوغلو، والذي قال: إن "الجميع يرون أن تركيا لا تدار بالشكل اللائق.. هناك بعض الشرائح داخل الحزب الحاكم غير راضية عن ممارسات بعيدة كل البعد عن معايير اللياقة والكفاءة، وغير راضين عن الطرق التي تمنح بها مناقصات الدولة".
سبق ذلك تلميحات أخرى لأحمد طاقان، مستشار الرئيس السابق عبدالله جول، كشف فيها عن أن الرئيس السابق ومعه رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داوود أوغلو، وباباجان، وشيمشك، قد يلجأون لتأسيس حزب جديد يحرك المياه الراكدة في الحياة الحزبية التركية، سيما أن ثمة كادرا مهما كان يمارس السياسة حتى الأمس القريب في حزب العدالة والتنمية، يعتقد أن الأمور لن تسير كما هي عليه الآن، وأن نقطة البداية ترتبط بمرحلة ما بعد الانتخابات البلدية، وتفاقم مشكلات البلاد الاقتصادية.
ويبدو أن ذلك قد لا يغدو بعيدا عن أثر الأزمات التي صنعتها سياسة تركيا الخارجية في ظل حكم العدالة والتنمية والتي أوجدت توترات أثقلت كاهل الاقتصاد التركي، كما أدخلت البلاد في أتون صراعات كان لها تكلفتها السياسة والعسكرية، والتي من ضمنها إعلان واشنطن وقف تسليم طائرات f35 إلى القوات الجوية التركية التي خططت تطورها على تَسلُّم هذه الطائرة النوعية، بما يوجد قوى مختلفة ضاغطة -بعضها غير ظاهر- مضادة لاستمرار الوضع التركي القائم، وهى تحولات تنذر بأن مرحلة العدالة قد تكون قد دخلت بالفعل مرحلة النهاية. بيد أنها -على ما يبدو- لن تكون نهاية سلسة أو يسيرة، فقد لا تشبه أيا من المراحل التي شهدت فيها تركيا "انتقالا مرنا" للسلطة بالتزامن مع بداية تبلور دورة حزبية مغايرة.