المحصلة أن سياسة أردوغان الداخلية والخارجية لا تزال منحصرة في التعامل وفق استراتيجية الطوارئ.
مما لا شك فيه أن تركيا أردوغان تغيرت على مستوى التركيبة السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع التركي، بشكل يمس هوية الدولة المستقرة، وإن كانت الأوضاع الاقتصادية التي تحرص الحكومة على الدفع بها لمواجهة هذه الانقسامات السياسية، هي ما تراهن عليه، رغم كثير من التحديات، من تراجع العملة إلى تقلص الاستثمارات الأجنبية، على خلفية خطاب الاستعداء والمواجهة لأوروبا، وتراجع العلاقات مع الولايات المتحدة، الحليف الأكثر قرباً من تركيا.
السياسة التركية اليوم تعيش حالة الطوارئ، منذ محاولة الانقلاب في يوليو (تموز) 2016؛ لكن الإجراءات القمعية وملاحقة عدد هائل من الأتراك من المعارضين وحتى من الفاعلين السياسيين المخالفين لنهج أردوغان، تشير إلى وقوع البلاد في أزمة سياسية كبيرة، لا يمكن للخطاب الشعبوي الذي يجترحه أردوغان التغطية على آثاره الكبيرة، ومنها خلق مساحات لفوضى الجماعات المعارضة الكردية، وعودة حضور تنظيم داعش، بتحويل تركيا نقطة انطلاق وعبور لمناطق التوتر. فحزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش يستغلان الحالة السياسية اليوم في تركيا، لإعادة التموضع في الداخل التركي، وهو ما يلقي بظلاله على دول الجوار؛ خصوصاً مناطق التوتر في العراق وسوريا.
لا يمكن لتركيا الدولة الصاعدة اقتصادياً محاولة التشبه بسلوك ملالي إيران، وهو استعداء الجميع، ومحاولة خلق اقتصادات الأزمة والعيش عليها، بخلاف إيران ووضعها الداخلي المنهار، فتركيا لديها عبء من الدين الخارجي يفوق 400 مليار دولار، منها 300 مليار كانت تراكمت عبر 15 سنة مضت
الانقلاب على إرث أتاتورك سبب شعبية لأردوغان في الأوساط الإسلاموية، ليس عند المعتدلين منهم أو المؤمنين بالديمقراطية كخيار مدني، وإنما في أجنحة الصقور داخل تيارات الإسلام السياسي، والذين يعتذرون لأردوغان في كل ممارساته السياسية بأنها انتقال تدريجي نحو تحكيم الشريعة، وأن العلاقة مع إسرائيل هي لتعزيز دعم القضية الفلسطينية، وأن الوقوف معه في وجه الاتحاد الأوروبي يقترب من حدود الواجب الشرعي، كما صرح بذلك عدد من رموز الحركة الإسلامية في الخليج؛ في حين أن هؤلاء لديهم مواقف حادة تجاه التحولات الكبرى في بلدانهم باتجاه تعزيز الوطنية، والانفتاح على الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية، ما يعني ازدواجية النظر إلى الفعل السياسي لمجرد ارتباطه بالشعارات الشعبوية، أكثر من كونه تحولاً على مستوى المواقف والأفكار.
والمحصلة أن سياسة أردوغان الداخلية والخارجية لا تزال منحصرة في التعامل وفق استراتيجية الطوارئ، والعيش والاستثمار على «الأزمات»، سواء مع المعارضين أو في العلاقات الدولية، بدءاً من التدخل في الشأن الخليجي، ومروراً بالتعامل المتحيّز في ملف الحرب على الإرهاب، من خلال التركيز على مواجهة الأكراد في مناطق التوتر.
النجاح الاقتصادي الهائل والشكلانية الديمقراطية إضافة إلى كاريزما أردوغان الذي لا يمكن اختزال بلد بحجم تركيا في سياساته الحزبية.. كل هذا يجب ألا يمنع من نقد السلوك السياسي المتهور في دعم جماعات متطرفة، واستخدامها في تمرير مواقف وأجندات تخدم الرؤية التركية للمنطقة، لا سيما في مشكلتها الأزلية مع الأكراد، مستغلاً العلاقة الجيدة والمتوازنة مع الولايات المتحدة، والشعبية بين الإسلاميين، والرسائل الدافئة والمطمئنة لإسرائيل.
وفيما يخص هوس الإسلام السياسي بتجربة أردوغان، فهو يعبر عن أزمة وجودية حقيقية بعد خروج منظومته من المشهد السياسي، أكثر من كونه قراءة واقعية وأمينة للسياق التركي الخاص، فهم لا يلتفتون إلى التفاصيل عند مقاربتهم لتجربة أردوغان في تركيا، وإنما يتشبثون بالشعارات الشعبوية العامة، رغم أننا نجد رموزهم في أكثر حالاتهم تعنتاً وتشدداً حيال قراءتهم لواقع بلدانهم الأصلية. يحدث هذا عند إسلاميي الخليج ومصر، كما هو الحال في بعض دول المغرب العربي وإن كانت بتفاوت بينهم، وهو ما يعبر عن خلل منهجي كبير لدى الإسلاميين بعد الخروج من مشهد الربيع العربي، في تصور العالم المعاصر بما يطرحه من مفاهيم الدولة والسيادة والمواطنة والحقوق، والتي لا يتم تناولها عبر أدوات محايدة ومنهجية في الدراسة والاستنتاج، بقدر أنها تستخدم كأداة للتأثير وإحراج الأنظمة السياسية.
والحال أن بقاء الصعود الاقتصادي لتركيا مرهون بمدى مواءمته للاقتصاد العالمي، وأي مكابرة في هذا السياق هو مجرد هروب للأمام وترحيل للمشكلة، ولا يمكن الاستعاضة عن ذلك بمشروعات شعبوية، مثل مخاطبة الجماهير التركية بضرورة تحويل مدخراتها وما تملكه من مجوهرات ومقتنيات للعملة التركية.
وعلى المستوى السياسي، فإن من الصعب على الأسلوب التركي في الاستثمار في أجواء الأزمة لكسب الشعبية، أن تستمر بمناهضة الدول الأوروبية وعدائها، وإضعاف تحالفها مع الولايات المتحدة، واستعداء دول الاعتدال في الخليج، إضافة إلى التنافس الذي يزداد يوماً تلو آخر مع روسيا في الأزمة السورية، والذي قد يدفع ببوتين إلى استغلال المعارضات اليسارية في تركيا ودعمها، لتفجير الوضع في تركيا، وهو ما يجعلنا أمام سيناريوهات مفزعة في الحالة التركية. وبالطبع لا أحد يتمنى ذلك؛ لأن انفجاراً للأوضاع في تركيا سيلقي بظلاله على استقرار الإقليم بشكل عام، لا سيما مع انهيار الأوضاع وتفاقمها في الأزمة السورية وفي العراق، حتى بعد تراجع تنظيم داعش ودخول العراق في أزمة التوترات المناطقية بسبب أداء الحكومة.
لا يمكن لتركيا الدولة الصاعدة اقتصادياً محاولة التشبه بسلوك ملالي إيران، وهو استعداء الجميع، ومحاولة خلق اقتصادات الأزمة والعيش عليها، بخلاف إيران ووضعها الداخلي المنهار، فتركيا لديها عبء من الدين الخارجي يفوق 400 مليار دولار، منها 300 مليار كانت تراكمت عبر 15 سنة مضت، عدا أنها تستورد من الخارج 5 أضعاف ما تستورده إيران.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة