جميع الأديان والثقافات والقوانين تؤكد أن البشر جميعاً سواء، وأن حياة الإنسان -أي إنسان- لها قيمة في ذاتها.
جميع الأديان والثقافات والقوانين تؤكد أن البشر جميعاً سواء، وأن حياة الإنسان -أي إنسان- لها قيمة في ذاتها، وأن إزهاق روح الإنسان جريمة نكراء ينال مرتكبها أغلظ وأقسى العقوبات المقررة في قوانين الأرض والسماء. ولكن الواقع العملي غير ذلك، فلم تعد قيمة حياة الإنسان واحدة، ولم يعد الرفض العالمي لقتل الإنسان متساوياً في جميع الحالات، بل أصبحت هوية القاتل هي من يحدد قيمة المقتول، وبشاعة الجريمة، والرفض والاستنكار العالمي لها. فإذا كان القاتل من بني جلدتنا، من أهل ديننا، أو مذهبنا، أو طائفتنا، أو من ملتنا ووطنا تتراجع قيمة المقتول حتى تكون صفراً، وأحياناً تتحول قيمة المقتول إلى رصيد إضافي للقاتل.
أكثرنا ادعاءً بالدفاع عن الدين والقيم، هم الأكثر مخالفة لهما، وضربا بهما عرض الحائط، ومن أراد أن يعرف عمق المأساة وهول بشاعة الحقيقة فليراجع مواقف أردوغان وإعلامه، والإخوان وفضائياتهم، ووسائل الدعاية السوداء التابعة لحكومة قطر في الحادثتين
في يوم الجمعة 24 نوفمبر 2017، وفي قرية تقع في شمال شبه جزيرة سيناء المصرية ما بين العريش وبئر العبد، اجتمع للصلاة أهل القرية من الشيوخ والأطفال والبسطاء الكادحين من أجل لقمة العيش، الذين لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالحكم في مصر، وحين امتلأ المسجد بالمصلين تم تفجيره، فمات من مات، وفر هارباً من استطاع الفرار؛ ولكن القتلة لاحقوا الفارين بالأسلحة الأوتوماتيكية فقتلوا كل من استطاعوا من الخلف، قتل الجبناء الذين يغدرون، ولا يواجهون، فكانت حصيلة القتلى من المصلين في يوم الجمعة 235 مسلما مصليا طاهرا.
وفي يوم الجمعة 15 مارس 2019، وفي مدينة هادئة في جنوب نيوزيلندا اجتمع للصلاة شيوخ ونساء وأطفال لا علاقة لهم بأي قضية من قضايا العالم، ولم يرتكبوا ذنباً سوى أنهم هاجروا إلى تلك البلاد البعيدة طلباً لحياة أفضل، هاجمهم قاتل ببنادق آلية فقتل 50 مسلماً مصلياً طاهراً، وأصاب مثلهم بجروح.
جريمتان وقعتا في ظروف متطابقة بصورة كاملة من حيث حالة المقتولين، الجميع مسلمون، وفي يوم جمعة، وأثناء الصلاة، وداخل مسجد، ولكن حالة القاتلين مختلفة بصورة كاملة، فالقاتل في حالة مسجد الروضة مسلم، يرفع رايةً وشعاراً منسوباً إلى الإسلام، له سمت المسلمين شديدي التدين من حيث اللحية والمظهر، يعلن أنه يقتل في سبيل قضية ينسبها للإسلام.. إلخ، لذلك تراجعت قيمة المقتولين، فلم يتحرك السلطان أردوغان الحالم بخلافة المسلمين، مثلما فعل مع جريمة نيوزيلندا على الرغم من أن العدد في حادث مسجد الروضة حوالي خمسة أضعاف مسجدي نيوزيلندا، ولم تصدر بيانات استنكار للجريمة من كثير من الدول الإسلامية، ولم يتم حشد وتجييش الفضائيات، ومواقع الشبكة الدولية، ووسائل التواصل الاجتماعي مثلما حدث ما جريمة نيوزيلندا.
هنا يثور السؤال المنطقي: لماذا اختلفت ردود أفعال المسلمين على الحادثين رغم أن الجريمتين متطابقتان من حيث الظروف والملابسات والضحايا، بل إن الجريمة الأولى يفوق عدد ضحاياها أضعاف الثانية؟ والإجابة السريعة المنطقية الواقعية أن القتلة في الجريمة الأولى مسلمون، وفي الثانية القاتل غير مسلم. هذه هي الحقيقة المرة القاسية التي تشكك في إنسانيتنا، وتدفع لإعادة النظر في كل منظومة القيم التي نؤمن بها، وندعي أنها قيم دينية.. ديننا يقول: "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة 32). فهوية القاتل لا قيمة لها، ولا تعتبر معياراً لتحديد مستوى بشاعة الجريمة، ولا موضع للتساؤل حول من هو القاتل؛ فقد ذكر القرآن الكريم القاتل بصيغة مجهولة، غيرة محددة الهوية.
أما واقعنا فيقول عكس ما جاء به القرآن الكريم، إن هوية القاتل أهم من قيمة المقتول، فإذا كان القاتل من بني جلدتنا يصبح القتل مسألةً فيها نظر، قد نؤيد أو نرفض، حسب مصالحنا، ومواقفنا السياسية، وفي مصلحة من يصب القتل، وضد مصلحة من يكون القتل، وإذا رفضنا فسيكون رفضنا بحساب أيضاً تحدده المصالح، والانحيازات والعلاقات والأطراف، على الرغم من أن المقتولين في كلتا الحالتين ليسوا طرفاً في أي صراع، ولكن قتلهم قد يصب في مصلحة طرف، أو ينال من مصالح آخر.
أي إنسانية هذه التي تجعل روح الإنسان رقما في بورصة السياسة؟ وأي تدين هذا الذي يجعلنا بلا قيم ولا معايير، وإنما يجعلنا انتهازيين على أقبح ما تكون الانتهازية؟ وأي قيم ومعايير تقوم عليها مجتمعاتنا تكون معها المصالح قبل المبادئ والقيم والمعايير؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة لأنها تشكك في البنية الأخلاقية لمجتمعاتنا.
الحقيقة المرة أن واقعنا على العكس تماما مما نرفع من شعارات، وأن أكثرنا ادعاءً بالدفاع عن الدين والقيم، هم الأكثر مخالفة لهما، وضربا بهما عرض الحائط، ومن أراد أن يعرف عمق المأساة وهول بشاعة الحقيقة فليراجع مواقف أردوغان وإعلامه، والإخوان وفضائياتهم، ووسائل الدعاية السوداء التابعة لحكومة قطر في الحادثتين: حادثة مسجد الروضة في مصر وحادثة المسجدين في نيوزيلندا. سيجد أن هوية القاتل هي التي تحدد قيمة المقتول، وأن الإنسان لا قيمة له في ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق ربح سياسي.
نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة