"أردوغان يقول عدت إلى حزبي وبيتي، لكنه يعرف أنه يتحدث والحزب يودع أو يترك جانبا، كبار رموزه ومؤسسيه"
في الوقت الذي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن أمام حشد من الاقتصاديين ورجال الأعمال أنّ أسوأ ما يمكن أن تمر به بلاده قد أصبح من الماضي، كان التوتر التركي الألماني العاشر خلال عام واحد يتفاعل بين أنقرة وبرلين في ظل ملامح الخلاف العميق في السياسات المتبعة من قبل الطرفين حيال ملفات ثنائية وإقليمية وأوروبية .
بعد 33 شهراً من الغياب عاد أردوغان إلى قيادة حزب العدالة والتنمية الذي أسسه عام 2001 مع مجموعة من القيادات التي انشقت عن الزعيم الاسلامي نجم الدين أربكان تحت ذريعة قطع الطريق على انطلاقتها الحزبية ورفضه التعامل مع متطلبات التغيير والتجديد في فكر حزب الرفاه والفضيلة لاحقا .
أردوغان الذي بدأ رئيسا لبلدية اسطنبول في منتصف التسعينات وأصبح رئيسا للوزراء عام 2003 ورئيسا للعدالة والتنمية حتى العام 2014 تاريخ انتخابه رئيسا للجمهورية، ثم مرة أخرى رئيسا للحزب الحاكم ، سيكون المسؤول الحكومي الأول بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء وارتباط الوزراء به مباشرة خلال عامين .
وأردوغان الذي قطع صلته بحزب العدالة عقب اعتلائه منصب رئاسة الجمهورية في العاشر من أغسطس عام 2014 عاد بعد التعديلات الدستورية في منتصف أبريل المنصرم إلى حزبه وترأسه مجددا في أعقاب المؤتمر الاستثنائي الثالث الذي عقد في أنقرة وحيث انتخب رئيسا بالإجماع تقريبا ودون وجود منافس آخر .
"أردوغان وتحت شعار مرحلة جديدة تبدأ مع الديمقراطية والتغيير والإصلاح، يقول عدت اليوم إلى حزبي وبيتي، لكنه يعرف أنه يتحدث والحزب يودع أو يترك جانبا، كبار رموزه ومؤسسيه"
أردوغان يقول إن الحزب تخلى عن الذين أضّلوا الطريق أو تخلوا عنه أو ترددوا أو تباطأوا في المسيرة والعمل الحزبي وابتعدوا عن روح التأسيس عام 2002، لكن أقلاما في المعارضة ترى أن المسألة أبعد من ذلك وهي متعلقة مباشرة بانطلاق عهد أردوغان الثاني في الحكم بصلاحيات ونفوذ وتمركز أوسع . معظم خيوط اللعبة السياسية والحزبية ستكون بيده .
أردوغان وتحت شعار "مرحلة جديدة تبدأ مع الديمقراطية والتغيير والإصلاح"، يقول عدت اليوم إلى حزبي وبيتي، لكنه يعرف أنه يتحدث والحزب يودع أو يترك جانبا، كبار رموزه ومؤسسيه مثل عبد الله غل وأحمد داود أوغلو وبولاند أرينتش وعلي باباجان، ويحكم شخصيات حزبية معروفة بكرسي التقاعد الهزاز باكرا بسبب مواجهات حزبية غير معلنة وتحت شعار التجديد والتغيير تُوجت بقرار تغيير 40 بالمائة من قيادات اللجنة المركزية والتنفيذية في الحزب .
أردوغان حدد معالم سياسة حزبه في الأشهر الست المقبلة التي وصفها بالمرحلة الانتقالية التي ستسبق التحضير لمعارك الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية المرتقبة بعد عامين ، بمواصلة مكافحة المنظمات الإرهابية، وعدم إنهاء حالة الطوارئ قبل أن تستوفي مهمتها، لكن الرسائل الأهم التي وجهها من أمام منصة المؤتمر كانت تتعلق بإعادة ترتيب شؤون البيت الحزبي الداخلي، واستحداث منصب وكيل رئيس الحزب، ولجنة مركزية متجددة غادرها قيادات مثل نائبي الرئيس نعمان كورتولموش وويسي كايناك، والناطق باسم الحزب ياسين أقطاي . المؤكد هو أن ما يجري حسم موقع ودور العديد من القيادات الحزبية التي تمت عملية إزاحتها لأكثر من سبب وصفه أردوغان بالتباطؤ أو مغادرة القاطرة . وأن الرئيس التركي أشار إلى أن التغيير لن يظل محصوراً في شعار المؤتمر والقيادة العليا للحزب، بل سيتعداهما إلى سائر هيئات الحزب وفروعه .
أردوغان عاد لرئاسة الحزب بعد رئاسة الجمهورية وهو سيتحرك بعيداً عن عقبة وجود رئيس وزراء يقول العكس أحيانا كما كان يفعل داود أوغلو، وهي خطوة تصفها قيادات الحزب بأنها تساهم في إطلاق يد الرئيس المؤسس دون وكلاء لضبط حركة الحزب ومؤسساته ، بينما تقول عنها الأصوات المعارضة وبعض الإعلاميين المقربين من حزب العدالة نفسه بأنها سيطرة وإشراف كاملين من قبله على العديد من المواقع السياسية والحزبية في البلاد .
أردوغان سيكون أول رئيس تركي يحظى بكل هذه الصلاحيات الواسعة في ظل حالة استثنائية تعيشها البلاد ونظام حكم الطوارىء الذي يطبق منذ 9 أشهر، لكن الرجل أعلن أنه لن يلغى حالة الطوارئ قبل أن تحصل تركيا على استقرارها وازدهارها وهو موعد وتاريخ مطاط قد يستغرق فترة طويلة .
المؤتمر الاستثنائي للعدالة والتنمية حمل معه الكثير من الدلالات حول مسيرة الحزب وملامح المرحلة المقبلة سياسيا وحزبيا ودستوريا في تركيا، لكن المشهد السياسي للبلاد يحمل معه تساؤلات أساسية حول :
هل هي حملة تطهير أم حملة تغيير تعيشها تركيا في الأشهر الأخيرة ؟
هل اللباس الذي يفصله أردوغان لنفسه بنفسه اليوم سيكون مناسبا وعلى قياس رئيس آخر يأتي من بعده ؟.
أم أن الرئيس الذي سيخلفه سيقوم هو الآخر بمراجعة الدستور والقوانين ليطبق ما يناسبه ؟
وهل حقيقة أن سيناريو وصول انتخاب أو فوز رئيس من المعارضة سيعني حتما وضع البلاد أمام مرحلة تغيير جذري لكل ما فعله أردوغان في الأعوام الثلاث الأخيرة دستوريا وتنظيميا وطال مباشرة شكل النظام وبنى الدولة وهيكليتها ؟
وهل تركيا ملزمة بدخول حقل التجارب هذا والبقاء وسط أزمة اختبارات دستورية وسياسية كما فهمنا من كلام أحد مستشاري الرئيس التركي الذي أعلن أن القيادة السياسية في السلطة ستعود وتراجع قراراتها إذا ما وجدت أنها غير مناسبة ؟
التغيير هو على الورق، لكن أحدا لا يعرف كيف سيكون التطبيق؟ هل سيمارس أردوغان نشاطه الحزبي اليومي أيضا ؟ أين وكيف سيفعل ذلك ؟ هل سيترأس اجتماعات كتلته البرلمانية بين الحين والآخر ؟ هل ستزوره القيادت الأجنبية كرئيس للجمهورية ثم في غرفة أخرى ومكان آخر كرئيس للحزب ؟
هل كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة ذريعة أم هي تحولت إلى فرصة للحزب الحاكم لإطلاق تحركاته الجديدة كما تقول الأقلام المعارضة ؟
هل كان حلما وحققه أردوغان، فهل هو الحلم التركي أيضا ؟
رسائل أردوغان في الأسبوع الأخير إلى مواطنيه توجز الكثير حول الحقبة السياسية المقبلة :
لا مكان لمن لا يعمل
لتُراجع أوروبا مواقفها وتلتزم بتعهداتها
لا تراجع عن تصفية جماعات الكيان الموازي وامتداداته
لا إلغاء لحالة الطوارىء في الوقت القريب
الإعدامات ستعود إذا ما أقرها البرلمان أو وافق عليها الشعب في استفتاء عام .
بقي أن نقول أنه
ربما قد تكون نتيجة الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية التي لم تعجب قيادات العدالة والتنمية هي التي قادت إلى تسريع عمليات التغيير وإنجازها خلال أشهر . وربما قد يكون أردوغان الذي نجح خلال 15 عاما من حكم الحزب في تحقيق الكثير من الإنجازات والإصلاحات ورفع مستوى تركيا من مرتبة إلى أخرى في أكثر من مكان يدخل في مغامرة كبيرة أكبر وأوسع من خلال إمساكه بدفة القيادة الرئاسية والحزبية والحكومية والبلديات في الوقت نفسه ووضعها كلها في سلة واحدة .
أردوغان يريد تحقيق إنجازات سريعة تعيد لتركيا ما فقدته في الأشهر الأخيرة من علاقات ونفوذ ومصالح . وهو لا يتردد في الاعلان عن رهانه على البديل الروسي والصيني والهندي هذه المرة إذا ما فشل مع الأمريكي والأوروبي .
ويريد أيضا ضخ دماء حزبية شابة وجديدة، والانفتاح على جميع شرائح المجتمع التركي ، لكن نتائج الاستفتاء الدستوري عكست حقيقة انقسام المجتمع إلى قسمين سياسيا واجتماعيا وفكريا وهي العقبة الأساسية التي تقف في طريقه وتقلقه أكثر من غيرها . لولا أصوات حزب الحركة القومية ودعم بعض المجموعات اليمينية والإسلامية والأصوات الكردية من خارج حزب العدالة هل كان بمقدور الحزب أن يمرر التعديلات الدستورية أم لا ؟
قيادات العدالة والتنمية تقول إنه مع عودة أردوغان إلى بيته الحزبي انتهى تضارب حكم الرأسين وتوحدت القيادة والجهود والتخطيط في موقع القيادة ، وأنها مرحلة انتقالية لا مفر منها ستعيشها تركيا خلال الأشهر الست المقبلة لإنجاز وامتصاص عملية التغيير والتعديل الدستوري والحزبي الحاصل وأنه لابد الآن من إقناع الشارع والمواطن بما فعله العدالة والتنمية وبفوائد وإيجابيات القرارات المتخذة والتي ستتخذ وبضرورة تحمل ارتدادات المرحلة الاستثنائية والانتقالية التي تعيشها تركيا وهي المهمة الأصعب برأينا .
أردوغان يدعو مناصريه إلى الحراك الدائم لاسترداد ما فقده الحزب " اقرعوا الأبواب وادخلوا لشرح ما أُنجز في الأعوام الأخيرة وما قُدم من خدمات " ويستفيد من حالة حزب الحركة القومية اليميني الذي يبدو أنه التصق به تماما ولم يعد بمقدوره الانفصال عنه خوفا من التشرذم والتشتت أكثر مما هو عليه اليوم، لكن أهم حظوظ وفرص أردوغان هي استغلاله لوضع المعارضة التي تعطيه أكثر مما يريد بتشتتها وانقساماتها وخلافاتها الداخلية التي لا تنتهي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة