هل تراجعت الخلافات والتصعيد الكلامي والسياسي الحاد بهذه السرعة وعبر لقاءات تركية أمريكية
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول موجهاً كلامه لقائد التحالف الدولي في الحرب على تنظيم داعش بول فونك، الذي أعلن أن أمريكا ستواصل تقديم العون لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، "من الواضح أن هؤلاء الذين يقولون إنهم سيردون علينا بعنف لم يجربوا الصفعة العثمانية من قبل".
وكان وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو يقول قبل ساعات من وصول وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إن العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن وصلت إلى نقطة حرجة "إما أن نحسن علاقاتنا أو أن تسوء بشكل نهائي".
أنقرة وواشنطن تعرفان أن البحث في سبل تخفيف التوتر التركي الأمريكي لا يمكن أن تتجاهل الموقع والدور الروسي في مسار العلاقات المتزايد بين أنقرة وموسكو، وضرورة حماية حصة الكرملين هنا، وقرار تيلرسون وأردوغان العمل سويا في سوريا وتحديدا في منبج لا يمكن أن يكون على حساب الروس.
وكان نائب رئيس الوزراء التركي بكير بوزداغ يدعو أمريكا إلى التخلي عن اختبار صبر تركيا، ويعلن أنه إذا كان هدف الزيارة هو محاولة إقناعنا بصوابية السياسة الأمريكية في سوريا فالأفضل ألا يحضر، لكن الذي كان بانتظار تيلرسون خلال زيارته الأخيرة لأنقرة هو غير ذلك تماما، كان أفضل وألذ أنواع الطعام التي يبدع المطبخ العثماني في تحضيرها للذواقة.
ثم جاءت الاستدارة الثانية في مسار التصعيد التركي الأمريكي بعد ساعة فقط على اللقاء، مع إعلان أنقرة أن موضوع إغلاق قاعدة "إنجرليك" أمام الاستخدام الأمريكي غير مطروح، وأن القاعدة بتصرف قوات حلف شمال الأطلسي للحرب على التنظيمات الإرهابية في سوريا.
هل تراجعت الخلافات والتصعيد الكلامي والسياسي الحاد بهذه السرعة وعبر لقاءات تركية أمريكية متسارعة خلال أسبوع واحد توجت بإعلان وزير الخارجية التركي؛ أنه سيكون بوسع أنقرة أن تتخذ خطوات مشتركة مع الولايات المتحدة في سوريا بمجرد أن تغادر وحدات حماية الشعب الكردية مدينة منبج؟، أم أنه اختبار ظرفي فقط لما يمكن أن يُطرح باتجاه تبديد غيوم التوتر والتهديدات والتلاسن اليومي بين القيادات في البلدين؟ وما الذي دار بين أردوغان وتيلرسون خلال اجتماع ضيق جدا استغرق أكثر من ثلاث ساعات؟.
صحيح أن التوتر والتباعد التركي الأمريكي في الملفات الثنائية والإقليمية حظي بالحصة الأكبر في المحادثات، وصحيح أن الطرفين اتفقا على تشكيل آليات عمل مشتركة تبحث سبل تخفيف التصعيد وحماية الخيط الرفيع الذي يمسك بالمتبقي من الشراكة الاستراتيجية، إلا أن قضية أخرى تريدها أنقرة وموسكو منذ أشهر هي التي طغت على الجزء الأهم من اللقاء كما يبدو: هل من الممكن ترتيب لقاء ثلاثي أمريكي روسي تركي يناقش ملف الأزمة السورية وسبل فتح الطريق أمام جنيف جديد يطرح تصور الحل وخارطة التسويات والتفاهمات لإنهاء الصراعات في سوريا؟.
مؤشرات كثيرة أعقبت اللقاء التركي الأمريكي الأخير تعكس احتمال وجود هذا السيناريو بعدما وصلت تفاهمات الأستانة وقرارات مناطق تخفيض التوتر إلى طريق شبه مسدود، وتراجعت التفاهمات في الغوطة، وتداخلت المحاور الأمنية والسياسية في دير الزور وعفرين وإدلب.
الكرملين أعلن رغبته بمناقشة الملف السوري مباشرة مع البيت الأبيض أكثر من مرة، والتقارب والتنسيق التركي الروسي الأخير لم يكن كافيا ليتقدم كثيرا على حساب واشنطن أو رغما عنها، ومحاولات الاختراق والتوغل الإيراني في المشهد السوري مستمرة بسبب الخوف من تفاهمات تركية روسية سرية على حساب طهران تغضب أنقرة وموسكو، مما يعرقل خطط الجهود الروسية بفتح أبواب اتصال بين أنقرة ودمشق ترفضها القيادة الإيرانية، لأنها ستربك حساباتها وسياستها في سوريا.
كل هذا دفع الأتراك والروس للبحث عن خشبة إنقاذ جديدة من هذا النوع، يتمسكان بها لدفع الأمور في سوريا نحو الحلحلة أمام خطورة التشابكات والتعقيدات المتزايدة، المطروح هو لقاء ثلاثي جامع بين الأمريكان والروس والأتراك يكون ممهدا لخارطة تفاهمات تترجم في مؤتمر جنيف المقبل، بالتنسيق مع الدول العربية والأوروبية الفاعلة في الملف، وتحظى بقبول ودعم النظام السوري وقوى المعارضة المعتدلة.
عندما:
- يقول وزير الخارجية الروسي لافروف إن من مصلحة أنقرة الاتصال المباشر بالنظام السوري.
- ويقول وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو إنه من مصلحة واشنطن القطيعة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا.
- ويقول الرئيس التركي أردوغان إن الجيش التركي سيدخل عفرين إذا لم تنسحب المجموعات الكردية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية منها.
- ويقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن المواجهة مع إيران في المنطقة حتمية ولا مفر منها، بسبب محاولات التمدد الإيراني الدائم في دول المنطقة عبر إشعال بؤر توتر مذهبي وعرقي.
- وتتحرك المقاتلات الإسرائيلية لتنفيذ غارات متكررة في العمق السوري تستهدف المواقع العسكرية الإيرانية، فيما تكتفي طهران بالتصعيد الكلامي عبر حسن نصرالله من جنوب لبنان.
فيبدو أن واشنطن قد تكون جاهزة للإصغاء إلى المطلبين التركي والروسي، في محاولة للملمة حبات العقد الأمريكي المنفرط في المنطقة واختبار فرصة من هذا النوع.
أين ستجهز هذه الطاولة؟ وكيف سيكون جدول الأعمال؟ وعلى أية مستويات ستتم؟ وهل سيكون لقاء اختبار للنوايا وعملية جس نبض فقط أم أنه سيكون مقدمة لترتيب المزيد من اللقاءات التي تعني نسف طاولة الأستانة أو استمراريتها شكليا ريثما تحسم الأمور هنا؟.
العودة الأمريكية السريعة والمفاجئة على خط الأزمة السورية والانتشار في ربع الجغرافيا السورية فوق أهم مصادر الطاقة هناك، والتواجد الأمريكي في مؤتمر الكويت الداعم للعراق وسط غياب إيراني عن المشهد، وتصفية الحسابات التي أرادتها طهران مع واشنطن خلال زيارة تيلرسون لبيروت وتركه وحيدا أمام العدسات لتثبت نفوذها وتأثيرها هناك، وتكرار واشنطن أن وقت توجيه الضربة لإيران يقترب يوما بعد الآخر، كلها حقائق تؤكد أن التصعيد الأمريكي الإيراني في ذروته، وأن عملية الاصطفافات الإقليمية مستمرة، وأن الإدارة الأمريكية ستحاول كسب أنقرة وموسكو إلى جانبها، في مواجهة من هذا النوع أو تحييدهما على الأقل عبر دفع الملف السوري نحو التسوية التي لا تريدها إيران في هذه المرحلة.
احتمال دمج مربعات التوتر في الغوطة وإدلب وعفرين ومنبج ووضعها كلها في سلة واحدة تناقش أمام طاولة التفاوض الأمريكي الروسي التركي المحتملة لم يعد مستبعدا، خصوصا أن إيران تستميت لتصعيد الأمور على أكثر من جبهة في سوريا ولبنان وعرقلة أية تفاهمات من هذا النوع، قد تدفعها حتى لإشعال جبهتي جنوب لبنان والجولان.
أنقرة وواشنطن تعرفان أن البحث في سبل تخفيف التوتر التركي الأمريكي لا يمكن أن يتجاهل الموقع والدور الروسي في مسار العلاقات المتزايد بين أنقرة وموسكو، وضرورة حماية حصة الكرملين هنا، وقرار تيلرسون وأردوغان العمل سويا في سوريا وتحديدا في منبج لا يمكن أن يكون على حساب الروس، لذلك تتمسك أنقرة في لعب ورقة التقريب بين البيت الأبيض والكرملين لتخطي الأزمات الأكبر التي تعد لها إيران التي بدأت تشعر بالعزلة.. فهل تنجح أنقرة في هدفها الجديد هذا؟
تفاهم الهدنة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية لا يعني انتهاء أسباب التوتر بقدر ما يهدف إلى محاولة إعطاء الحوار فرصة جديدة للبحث عن صيغة تخفف التأزم المتزايد بين البلدين أو تجمده على أقل تقدير.
مستشار الرئيس التركي جميل ارتام، يقول في أعقاب زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إن "المباحثات التي جرت مع الحكومة الأمريكية انتهت بنتائج ستفتح الطريق أمام تطورات إيجابية".
اللامنطقي بالنسبة للأتراك هو أن يقول وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس لنظيره التركي نور الدين جانكلي إن واشنطن تعمل لإقناع قوات سوريا الديمقراطية بالابتعاد عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وإنه في المرحلة المقبلة قد تقع بينهما المواجهة المسلحة بين وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني.
لكن اللامنطقي أيضا قد يكون ما قاله وزير الخارجية الأمريكي حول أن البلدين لن يقوما بخطوات تصعيدية واستفزازية بعد الآن، وأنهما سيدخلان في إطار عمل مشترك، وأن الأولوية في الوقت الحالي هي لمسألة منبج، وأن "أمريكا تريد التأكد من أن منطقة منبج تقع تحت سيطرة القوات الحليفة لها".
تيلرسون أراد أن يعود بمعنويات عالية من أنقرة وهي قد تكون أعطته هذه الفرصة، خصوصا أنه قد يكون تعهد بمناقشة خطتها الجديدة مع الرئيس الأمريكي وإقناعه بها، لكن هناك حقائق أخرى لا بد من قبولها حول حجم التوتر والتباعد التركي الأمريكي، فتيلرسون لم يقل لنا كيف سينجح البلدان في امتصاص كل هذا التصعيد؟ وهل ستتخلى واشنطن عن حليفها الكردي؟ ومن هي هذه القوات التي يرى فيها حليفة؟ طبعا إلى جانب موضوع الأسلحة التي منحتها الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب وما يقال في تركيا حول الشرعية التي وفرّتها واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية؟.
تردد أنقرة أن تعاون واشنطن مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي يستهدف أمنها ووجودها مباشرة، لكنها تعرف أيضا أن التنسيق بين الجانبين في الرقة ودير الزور هو الذي سهّل عودة واشنطن بقوة إلى قلب المشهد السوري عسكريا وسياسيا، لذلك هي مطالبة بأن تقول وتقبل بالجديد غير التلويح الدائم بمقولة الشراكة الاستراتيجية التركية الأمريكية والتواجد العسكري المشترك تحت سقف حلف الأطلسي.
واشنطن لن تبالغ في الرهان على سيناريو تركي من هذا النوع دون التحضير الجيد له في كواليس هذه الدول وبعد استشارة حلفائها وشركائها الإقليميين، وهي ما قد تفعله، حتى إعطاء قرارها النهائي محاولة اختبار حقيقة النوايا الروسية وامتصاص النقمة التركية ريثما تتوضح الأمور في عفرين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة