عملية "غصن الزيتون" التركية في عفرين تسير ببطء من أجل تقليل الخسائر في الجيش التركي قدر الإمكان
لم يهدأ القصر الرئاسي في تركيا بُعيْد إعلان وكالة الأخبار السورية الرسمية عن توجه قوات "شعبية سورية مقاتلة" إلى عفرين، إذ أطلق هذا الخبر استنفاراً دبلوماسياً تمثل في اتصال الرئيس رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتن، ومن ثم مع نظيره الايراني حسن روحاني، تبعه تصريحات نارية مهددة ومتوعدة، بأن "دمشق ستتحمل تبعات وخيمة إن هي أرسلت فعلاً قوات إلى عفرين"، مع ترك المجال مفتوحاً لاحتمالات مواجهة عسكرية مباشرة بين الجيش التركي وتلك القوات السورية.
هذه التصريحات غطت على تصريحات وزير الخارجية مولود شاوش أوغلو الذي كان في زيارة سريعة للعاصمة الأردنية عمان، حيث رحب من هناك بدخول الجيش السوري إلى عفرين "إن كان دخوله بهدف محاربة القوات الكردية هناك"، وهو تصريح يعكس حيرة سياسية وعدم استيعاب كامل للموقف، إذ يفترض شاوش أوغلو أن هناك احتمالاً لأن يكون دخول القوات السورية الموالية للأسد إلى عفرين إشارة إيجابية، وأنه ربما يكون هذا الدخول يهدف فعلاً لطرد المسلحين الأكراد من هناك، وهو تفكير مسرف في التفاؤل.
أما في أنقرة فكانت الصورة واضحة بشأن هذه الخطوة، والتي إن حدثت فعلاً فإنها ستحرج أنقرة وستعقّد المشهد في عفرين، وتضع عملية "غصن الزيتون" على المحك، خصوصاً أن موسكو لن تسمح للجيش التركي باستهداف أي قوات سورية محسوبة على بشار الأسد، ومضادات الطائرات الروسية قريبة من عفرين وجاهزة لإغلاق المجال الجوي أمام الطيران التركي في أية لحظة.
سواء دخلت قوات سورية إلى عفرين وصعبت المهمة على الجيش التركي هناك، أو تم عرقلة هذا المشروع بتفاهم تركي روسي، فإن ما حدث يلقي ظلالاً قاتمة على التعاون الثلاثي التركي الإيراني الروسي في سوريا، المعروف بثلاثي تفاهمات أستانة.
عملية "غصن الزيتون" التركية في عفرين تسير ببطء من أجل تقليل الخسائر في الجيش التركي قدر الإمكان، فالرئيس أردوغان أعلن أنه تمت السيطرة حتى الآن على نحو 300 كيلومتر مربع من أرض عفرين، وهي مساحة تشكل نحو 15% فقط من مساحة عفرين.
ومع هذا التقدم البطيء والاقتراب من جنديريس جنوب عفرين أول المدن الصغيرة المأهولة في عفرين، انتشرت أخبار عن ضغط أنقرة على فصائل من الجيش السوري الحر في إدلب، بينها أحرار الشام لإشراكها في العملية، وقد يكون إشراك أحرار الشام وأخواتها من فصائل سورية معارضة هو الحل الوحيد أمام تركيا حالياً لتجنب المواجهة البرية المباشرة مع القوات الشعبية السورية في عفرين، حتى يكون القتال سورياً – سورياً هناك مع دعم لوجستي من الجيش التركي من على الطرف الآخر من الحدود، وهو حل وسط لكنه صعب التحقيق ونتائجه غير مضمونة.
لو أن موسكو أرادت مساعدة أنقرة في عفرين، لضغطت لذهاب الجيش السوري وليس قوات شعبية إلى هناك، ولضغطت لخروج القوات الكردية من عفرين، لكن هذا لم يحدث، حتى الآن على الأقل، ما يشير إلى أن سيناريو إرسال قوات سورية إلى عفرين قد يكون فكرة إيرانية –سورية مشتركة لتقدم لموسكو ورقة ضغط على أنقرة. وهنا يجب النظر في الدوافع الروسية من وراء هذه الخطوة التي لن تتم إلا بضوء أخضر منها. وهناك احتمالان قائمان، فإما أن تكون موسكو منزعجة من زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تلرسون الأخيرة إلى أنقرة، أو أن موسكو تريد مساومة أنقرة على الغوطة الشرقية بريف دمشق، مقابل عرقلة دخول تلك القوات السورية إلى عفرين.
وفق المعطيات العلنية فإن زيارة تلرسون لأنقرة ولقاءه الخاص المغلق مع الرئيس أردوغان لأكثر من ثلاث ساعات، واجتماعه مع نظيره شاوش أوغلو لساعتين أخريين، لم يحقق أي اختراق حقيقي لتقريب وجهات النظر في سوريا. فالإعلان عن إنشاء لجان تنسيق بين وزارات البلدين المختلفة من أجل حل المشاكل العالقة، هو خيار دبلوماسي معروف تلجأ إليه الدول في حال فشل التوصل إلى تفاهمات ومن أجل الحفاظ على ماء الوجه، وعدم إعلان فشل المفاوضات عادة، فالانتظار إلى منتصف مارس المقبل لتشكيل هذه اللجان، وانتظار اجتماعها وعملها للخروج بشيء ما قد يكون مخرجاً لشراء الوقت فقط، لكن اللافت في الزيارة كان اقتراح أنقرة دخول قوات تركية أميركية مشتركة في منبج بعد طرد القوات الكردية منها، وإن كان الاقتراح يهدف أولاً لإحراج الصديق الأميركي الذي رفض التعليق على الاقتراح حتى الآن، إلا أنه أيضاً يشير إلى نية أنقرة للتعاون مع واشنطن في حال التوصل لاتفاقات أو تفاهمات في سوريا.
لكن هذه الإشارات العلنية التي لا تكشف عن تحقيق تفاهم تركي أميركي، قد لا تكون كافية لإزالة الشك لدى موسكو تجاه شريكها التركي. فأي تواصل تركي أميركي يزعج موسكو مباشرة، ولا يزيل شكوكها بشأن احتمال وجود تفاهمات سرية بين أنقرة وواشنطن. وقد شاهدنا سابقاً مدى الانزعاج الروسي وتوابعه من مثل هذه اللقاءات التركية الأميركية، حيث قصفت المقاتلات الروسية مواقع للجيش التركي في مدينة الباب العام الماضي خلال زيارة رئيس المخابرات الأميركية مومبيو لأنقرة، وقتلت ثلاثة جنود أتراك في رسالة روسية قوية لأنقرة، فهل تكون خطوة إرسال قوات شعبية سورية إلى عفرين بمثابة رسالة تحذيرية روسية جديدة لأنقرة؟
من جانب آخر، لفت الانتباه تصريح لوزير الخارجية الروسي لافروف بداية الأسبوع، قال فيه "إن ملف الغوطة الشرقية بريف دمشق يمكن حله على طريقة حل ملف حلب سابقاً"، وهي إشارة صريحة لمساومة أنقرة، من أجل الضغط على فصائل المعارضة الموالية لها في الغوطة الشرقية المحاصرة من قبل قوات النظام السوري، للخروج وتسليم السلاح ونقلهم إلى إدلب، وقد يكون هذا هو الثمن المطلوب روسيا وسورياً من أنقرة من أجل تأجيل أو حتى الغاء مشروع إرسال قوات إلى عفرين، وهذا الاحتمال يزداد قوة إذا أخذنا بعين الاعتبار تضارب التصريحات الكردية التي تؤكد تارة وتنفي تارة أخرى وجود اتفاق مع دمشق، فيما يلتزم المسؤولون السوريون الصمت حيال هذا الاتفاق، ويكتفون بتصريحات وسائل الإعلام، وهي إشارات إلى أن الاتفاق مازال ينتظر الضوء الأخضر الروسي. وقد اعتادت موسكو على انتزاع تنازلات من تركيا، على حساب المعارضة السورية، في مقابل تهدئة جزء من المخاوف التركية تجاه الملف الكردي في سوريا.
وسواء دخلت قوات سورية إلى عفرين وصعبت المهمة على الجيش التركي هناك، أم تمت عرقلة هذا المشروع بتفاهم تركي روسي، فإن ما حدث يلقي ظلالاً قاتمة على التعاون الثلاثي التركي الإيراني الروسي في سوريا، المعروف بثلاثي تفاهمات أستانة، إذ يبدو أن مصالح ضيقة جداً تجمع هذا الثلاثي، الذي لا يتردد أطرافه بمساومة بعضهم البعض على أوراق ضغط جديدة، والحصول على تنازلات سياسية جديدة من بعضهم البعض في مشهد يمكن اعتباره أغرب تحالف مصالح في التاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة