ما حدث ليلة 15 يوليو 2016 في تركيا لم يكن سوى مسرحية، الهدف منها تصفية قيادات الجيش، وشن حملة كبيرة على جماعة فتح الله كولن.
رغم مرور عامين على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، إلا أن ما حصل في ليلة 15 يوليو 2016 ما زال يشوبه الغموض في كثير من جوابه، ما دفع أحزاب المعارضة للتشكيك في أن ما حدث كان معدا له سلفا من قبل الحكومة، وأن ما حدث لم يكن سوى مسرحية الهدف منها تصفية قيادات الجيش، وشن حملة كبيرة على جماعة فتح الله كولن وجميع البيروقراطيين العلمانيين في الدولة، تمهيدا لفرض نظام رئاسي جديد في تركيا، يتحكم فيه الرئيس رجب طيب أردوغان ويسيطر من خلاله على جميع مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والقضاء، بعد التأكد من طرد جميع المعارضين لسياساته من تلك المؤسسات.
ما حدث في ليلة 15 يوليو 2016 يبقى غامضا حتى الآن وفق ما تقوله المعارضة، التي ما زالت تشكك في حقيقة ما حدث، وتؤكد أن العبرة بالنتيجة، والنتيجة هي تحويل تركيا إلى دولة الحزب الواحد، كما جرى في الحركة التصحيحية في سوريا عام 1970.
فرغم انتهاء معظم القضايا التي رفعت لمحاكمة المتورطين في تلك الليلة، إلا أن ما تم الكشف عنه أثناء المحاكمات أثار المزيد من الأسئلة التي بقيت دون جواب شاف، بدلا من توضيح حقيقة ما جرى.
الأسئلة هنا تنقسم إلى قسمين، الأول يتضمن أسئلة عن عدم منطقية بعض الأحداث والأحكام، والثاني عن عدم منطقية سيناريو الانقلاب بحد ذاته.
ومن أسئلة الشق الأول كان سؤال محامي المتهمين عن سبب إسراع الحكومة في دفن ضحايا تلك الليلة دون تشريح جثثهم للتأكد من مصدر الرصاص الذي قتلوا به، فالمعارضة تؤكد مشاهدة العشرات من المسلحين مجهولي الهوية الذين انتشروا في الشوارع وأطلقوا النار وأنهم لم يكونوا من العسكريين، وتقرير الخبير العسكري في حوادث القتل التي وقعت في ميدان تقسيم تؤكد أن 56 رصاصة من أصل 59 أطلقت على المدنيين الذين نزلوا إلى الشوارع ليلتها، لم تكن من الرصاص الذي يستخدمه الجيش! ولم يكلف القاضي نفسه طلب البحث عن مصدر تلك الطلقات.
هذا بالإضافة إلى الأسئلة عن منطق الأحكام على المئات من المغرر بهم من الجنود الذين نفذوا أوامر قياداتهم بالنزول إلى الشارع وإلى جسر البسفور، دون علم منهم بأنهم ينفذون مخططا انقلابيا، ومعظمهم حكم عليه بالحبس المؤبد، وهم من طلاب الكليات العسكرية الذين لا ناقة لهم ولا جمل، ولا يملكون سوى تنفيذ الأوامر دون سؤال أو اعتراض. كما كان لافتا توجيه تهمة المشاركة في الانقلاب لضباط ثبت دخولهم في اشتباكات مع الانقلابيين دفاعا عن الجيش ورفضا للمحاولة الانقلابية!
أما فيما يتعلق بأسئلة عدم منطقية سيناريو الانقلاب فهي أكثر وأكبر، فمثلا لا يزال هناك كثيرون في تركيا غير مقتنعين بأن سيناريو انقلابيا يبدأ بإرسال دبابتين وعشرات الجنود لإغلاق جسر البسفور، فهي خطوة لا معنى لها ولا فائدة منها، إلا استدراج الناس إلى الشارع من أجل حدوث صدام بين الجيش والمدنيين.
كما كشفت التحقيقات والمحاكمات أن موعد انطلاق الفريق الذي قيل بأنه مكلف بإلقاء القبض على الرئيس أردوغان في منتجع مرمريس كان بعد رحيل أردوغان عن مرمريس، فالقرار تم تأخيره أكثر من مرة تلك الليلة دون سبب واضح، فيما وصل فريق "الاعتقال" إلى مرمريس في الوقت الذي كان فيه الرئيس أردوغان يعقد مؤتمره الصحفي في مطار إسطنبول، فهل من المنطقي ان تصل أوامر الانقلابيين لهذا الفريق متأخرة بهذا الشكل وبعد بدء السيطرة على الشارع من قبل الحكومة، فيما كل شيء كان يذاع على الهواء مباشرة؟ كما أن سر مغامرة الرئيس أردوغان بركوب الطائرة ليلتها فيما هو يعلم أن هناك طائرات إف 16 في الجو تبحث عنه ما زال دون جواب.
ويسأل زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو -الذي وصف المحاولة الانقلابية بالسيناريو- عن سبب قصف الطائرات الحربية البرلمان؟ وعن سبب قصفهم المتظاهرين أمام القصر الجمهوري في أنقرة دون قصف القصر؟.
والعنصر الأغرب والأهم، هو هذا التقريب اللافت للنظر من قبل الرئيس أردوغان لقائد الأركان الجنرال خلوصي أكار، الذي بقي عامين في منصبه رغم فشله في منع الانقلاب، وهي مسؤوليته، بل ترقيته إلى وزير للدفاع في الحكومة الجديدة، وكأنه يكافئه على دوره في تلك الليلة بدلا من أن يحاسبه على تقصيره؟ وقال أحد الجنرالات الذين أدلوا بشهادتهم في المحكمة إن المسؤول الأول عن عدم وأد الانقلاب في مهده كان رئيس الأركان، الذي علم بالمحاولة الانقلابية عصر ذلك اليوم لكنه لم يحرك ساكنا، علما بأن القانون العسكري في الجيش التركي يأمر بوضوح في مثل هذه الحالات بإصدار أمر من قائد الجيش لجميع القوات بأن تلزم ثكناتها، لكنه اكتفى بإصدار أمر بإغلاق الساحة الجوية، وبدأ مفاوضات مع الانقلابيين، انتهت باعتقاله على يدهم.
ويقول الجنرال زكي اكصاكالي في شهادته "إن قرار التزام القوات بالبقاء في ثكناتها كان من شأنه أن يميز الانقلابيين عن غيرهم، فكل من خالف هذا الأمر الصريح وخرج فهو انقلابي، أما في عدم وجود هذا الأمر فإن كل من أطاع تعليمات قياداته بالخروج لا يمكن تحميله المسؤولية لأنه كان ينفذ الأوامر"، لكن تظهر الشبهة هنا بأن عدم إصدار هذا الأمر كان المقصود منه إفساح المجال لتوجيه تهمة المشاركة في الانقلاب للجميع دون تمييز.
وهل يعقل أن رئيس المخابرات وقائد الجيش اللذين علما بالمخطط الانقلابي عصر ذلك اليوم من "أحد المنشقين عن المخطط الانقلابي الذي أفشى سره للمخابرات حينها" لم يقوما بأي خطوة لمنع الانقلاب، بل لم يتصلا بالرئيس أردوغان ليحذراه؟ ورغم هذا الضعف الواضح في الأداء لم يتم توجيه أي تهمة لهما أو تحميلهما أي مسؤولية بل تم تقريبهما من الرئيس أكثر.
كما أن هذا "المنشق" الذي أفشى المخطط الانقلابي تم ضمه للمخابرات، ومنعت المحاكم من أخذ أقواله أو مواجهته بأي من المتهمين، وتم إخفاء هويته واختفى تماما بعد تلك الليلة، علما بأن أبسط قواعد المحاكمة تقضي بمواجهة هذا الشاهد بالمتهمين لتأكيد التهمة، وتفصيل كيف تم التخطيط للانقلاب.
وبالنظر إلى النتائج التي حصلت بعد هذه المحاولة الانقلابية نجد أنه تمت تصفية آلاف الكوادر العسكرية، سواء كانت تابعة لحركة فتح الله كولن أم من العلمانيين المتشددين، وتمت إعادة هيكلة الجيش وربط جميع الترقيات بأمر الرئيس أردوغان، وإغلاق الكليات العسكرية التي كانت تدرس المنهج العلماني العسكري وتم استبدالها بجامعة للعلوم العسكرية، رئيسها أستاذ تاريخ عثماني إسلامي، تعمل الآن على تخريج دفعات جديدة من الضباط ولاؤهم للرئيس قبل الدولة، بعد استبدال العقيدة العسكرية لهم.
كما أن موقف حزب العدالة والتنمية الحاكم من توضيح حقيقة ما جرى كان مفاجئا وغريبا، إذ بدلا من اتباع شفافية عالية في التحقيقات، وإذاعة المحاكمات على الهواء مباشرة لكشف فظاعة ما حدث، عارض الحزب الحاكم في بداية الأمر إجراء تحقيق برلماني في الموضوع، ثم وافق على مضض، لكن أعضاء فريق التحقيق من الحزب الحاكم حالوا دون استدعاء رئيس المخابرات أو قائد الأركان للإدلاء بشهادتهم أمام لجنة البرلمان الاستقصائية، وبدلا من الشفافية في التحقيق تم اتهام كل من يطرح الأسئلة لمعرفة الحقيقة بأنه داعم للانقلابيين، وبدلا من الإجابة عن هذه الأسئلة المنطقية والبديهية تم إطلاق التهم جزافا ودون أي دليل على قوى دولية وغربية وعربية، فقيل إن دولا خليجية ساعدت في التخطيط للانقلاب وتمويله، لكن القضايا انتهت دون الكشف عن أي دليل عن وجود ذراع خارجية في كل ما حدث أو أموال تم صرفها.
ما حدث في ليلة 15 يوليو 2016 يبقى غامضا حتى الآن وفق ما تقوله المعارضة، التي ما زالت تشكك في حقيقة ما حدث، وتؤكد أن العبرة بالنتيجة، والنتيجة هي تحويل تركيا إلى دولة الحزب الواحد، كما جرى في الحركة التصحيحية في سوريا عام 1970، حيث استولى حينها حافظ الأسد على الحكم، وانفرد حزب البعث بحكم الدولة ومؤسساتها.
ويقول الكاتب المعارض التركي ليفينت غولتكين إن نماذج دولة الحزب الواحد في العالم لم ينجح أي منها في توفير الرفاهية والحرية للشعوب، وإن النماذج كثيرة على ذلك من العراق إلى سوريا.
فيما تسخر المعارضة التركية قائلة إن حزب العدالة والتنمية الحاكم ومن خلال سياسات مفكره الأهم أحمد داود أوغلو حاولت سابقا التقرب من سوريا من أجل دفع الرئيس بشار الأسد على الانفتاح على التعددية والديمقراطية، لكن بعد أحداث الربيع العربي، وليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة، حدث العكس، فتحولت تركيا إلى دولة الحزب الواحد، وابتعدت أكثر عن التعددية والحرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة