حقيقة ثالثة تتعارض مع ما يقدمه بعض المحللين والإعلاميين الأتراك من تبريرات في التغيير الأخير،
تعيين رئيس وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو في منصب وزارة الخارجية الأمريكية عقب إقالة ريكس تيلرسون، إضافة إلى اختيار جينا هاسبل في المنصب السابق لبومبيو، يعكس حقيقة أن الرئيس دونالد ترامب يعد لشيء ما ولا يفعل ذلك دون سبب.
يرى البعض في تركيا أن إبعاد تيلرسون عن وزارة الخارجية لا يعني بالضرورة حدوث تغيير حقيقي في السياسة الأمريكية، وأن واشنطن ستلتزم بتعهداتها واتفاقياتها المقدمة لأنقرة خصوصاً في الموضوع السوري وخطط منبج وضفتي نهر الفرات والقطع مع مجموعات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي، لكن الكثير من الأتراك يرون العكس أيضاً، وأن الأمر عندما يتعلق بأسلوب وطريقة إدارة ترامب للمسائل، فإن المفاجآت كثيرة والعديد من الاحتمالات والسيناريوهات تصبح قابلة للنقاش.
واشنطن كما يبدو جاهزة للمغامرة الكبيرة في علاقاتها مع أنقرة حتى ولو كان الثمن خسارة لاعب إقليمي فاعل بمثل أهمية تركيا، إذا ما تمسكت القيادات التركية في التصعيد والتهديد والحديث عن التآمر الأمريكي ضدها.
إلغاء وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو زيارته المرتقبة إلى واشنطن بانتظار تسلم نظيره الأمريكي الجديد مهامه، قرار فيه الكثير من المنطق لكن الرسائل الأمريكية الموجهة إلى الأتراك في الأيام الأخيرة تتحدث عن ثبات واضح في الموقف وعدم استعداد البيت الأبيض لتغيير رؤيته السورية في خطط الحرب على التنظيمات الإرهابية أو التخلي عن قوات سوريا الديمقراطية والتعهدات المقدمة لها على طريق التنسيق والشراكة هناك.
الحقيقة هي أن عملية التعديل الجذري الأخيرة التي قام بها البيت الأبيض على مستوى هرمي الدبلوماسية والاستخبارات تقلق حكومة العدالة والتنمية التركية لأكثر من سبب:
الصقور هم في السلطة هذه المرة كما ترى أنقرة، وهم الذين سيتولون الإشراف على الملفات الثنائية الكثيرة المتشابكة والمعقدة بين البلدين، وهم الذين سيقودون مسار الرؤية الأمريكية في التعامل مع الملف السوري، والتي ستكون مختلفة تماماً عن أسلوب ونهج وقرارات فريق العمل السابق.
والتصريحات والمواقف المعلنة للأسماء المختارة لإدارة هذه الملفات كان فيها الكثير من التعارض والتضارب مع ما تقوله القيادات التركية في ملفات ثنائية وإقليمية؛ وعلى رأسها الملف الكردي ببعده الإقليمي وتحديداً شقه السوري، حيث التمسك بشراكة أمريكية كردية في الحرب على تنظيم داعش في شمال وشرق سوريا.
إيران ليست سبباً كافياً ومقنعاً لفصل "تيلرسون" عن منصبه، حقيقة أخرى لا نريد في تركيا أن نقبل بها بعد، وهي أن مسألة تعيين شخص في منصب جديد خصوصاً على الطريقة الأمريكية وعلى مستوى الخارجية والاستخبارات أهم جناحي الدعم للبيت الأبيض، تشير إلى الرغبة في إجراء تغييرات سياسية لا بد منها، وعند تغيير رؤوس الهرم في هذه المؤسسات فإن تنفيذ هذه السياسات الجديدة سيكون أكثر سهولة.
حقيقة ثالثة تتعارض مع ما يقدمه بعض المحللين والإعلاميين الأتراك من تبريرات في التغيير الأخير، حيث يرمون الكرة في ملعب إيران وحدها تحت ذريعة وجود خلافات بين ترامب وتيلرسون في إدارة شؤون هذا الملف، وأن ترامب يسعى إلى ممارسة سياسة أكثر صرامةً تجاه إيران، ولكن تيلرسون كان يقف في وجه ذلك.
غير أن الوزير المعزول نفسه قال إن المسألة لا تنحصر بإيران فقط بل "مثل إيران" دون أن يدخل حتى الآن في التفاصيل. المفاجأة الوحيدة قد تكون التصعيد أكثر فأكثر مع طهران في سوريا ومحاصرة تركيا باتخاذ موقف واضح وحاسم حيال هذا التحول المقبل في السياسة الأمريكية.
حقيقة رابعة تتجاهلها القيادات السياسية التركية وهي أن خطوة التغيير على هذا النحو تتعلق بروسيا وليست إيران وحدها، ومن المحتمل أن يكون الرئيس ترامب يسعى إلى محاصرة تركيا في موضوع التقارب الواسع الذي أنجزته مع موسكو عبر اتفاقيات وتفاهمات سياسية وأمنية واقتصادية وصفقات تسلح تهدد البنية التحتية للعلاقات التركية الغربية بأكملها، أما أن ترامب يريد تذكير أنقرة بضرورة وضع حد لكل هذا الانفتاح، وأما أنه وهنا قد تكون المفاجأة الحقيقية قد يذهب بمنحى التفاهم المباشر مع موسكو، لإخراج أنقرة وطهران من المعادلات الإقليمية وبذلك يجعلهما وحدهما يدفعان الثمن.
تعيين بومبيو وزيراً للخارجية إذاً، يعني أننا سنشهد تغييراً في معالجة أمريكا للعديد من الملفات الخارجية وتحديداً ملفي إيران وسوريا، حيث يسعى ترامب للاستعانة بمن يشاطرونه الرأي ويدينون له بالولاء الكامل. ترامب يرى أن الحل الأفضل للتعاطي مع إيران هو التلويح الدائم بورقة المزيد من العقوبات ضدها، كما يدافع عن بقاء الخيار العسكري سيفاً مسلطاً فوق رأسها. ما هي حصة تركيا في كل ذلك الاستفادة من الرسائل فقط أم هناك ما سيقوله الرئيس الأمريكي لأنقرة، وسيكون مختلفاً عما سمعوه من تيلرسون ويقترب أكثر مما قاله بومبيو حول تركيا وسياساتها الإقليمية؟
المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، يقول إن تركيا ستقيم مع الولايات المتحدة "منطقة آمنة" حول منبج "إذا أوفت واشنطن بوعودها"، وأن الاتفاق بين أنقرة وواشنطن حول منبج ملزم، وأن تغيير وزير الخارجية الأمريكي لن يؤثّر على التنفيذ حتى وإن تأخر، لكن الجميع في أنقرة يدرك أن إقالة تيلرسون لا يمكن فصلها عن السياسة الأمريكية في شمال سوريا، وأن هوة الخلافات الكبيرة بين البلدين هي التي دفعت الرئيس الأمريكي لإجراء هذا التغيير الذي سيكون مقدمة لمواقف جديدة في التعامل مع تركيا ثنائياً وإقليمياً.
العلاقات التركية الأمريكية واعتباراً من مطلع أبريل المقبل، ستدخل مرحلة جديدة لا يمكن تجاهلها أو إخفاؤها او الالتفاف عليها بتصريحات سياسية تحذيرية أو تهديدية. المطلوب سيكون أبعد وأهم من ذلك بكثير ونية واشنطن واضحة بهذا الخصوص مع اختيار بومبيو ليقود المرحلة ويدافع عن بلاده في وجه التهم التركية "الدولة التي كنا نعتبرها حليفاً لنا، تصر على إقامة جيش إرهابي على حدودنا". و"مهمة تركيا تقتضي تدمير هذا الجيش قبل إنشائه".
خيارات التغيير الأخيرة في واشنطن شئنا أم أبينا تتعلق أيضاً بمسار ومستقبل العلاقات التركية الأمريكية ولا يمكن لأحد التلطي وراء الملفات الإيرانية والكورية والصينية وحدها.
الانسجام في شمال سوريا وتخلي واشنطن عن حلفائها الأكراد هناك يبدو مستحيلا وأزمة الثقة بين البلدين في الملفات الإقليمية مثل روسيا والعراق لن تحل بسهولة وتركيا ستطالب في علاقاتها مع الغرب بموقف نهائي حاسم. لا يمكن أن تكون مع الأطلسي وتهاجم الحلف وسياساته السورية وتحمله مسؤولية التخلي عنها أو التآمر عليها.
واشنطن كما يبدو جاهزة للمغامرة الكبيرة في علاقاتها مع أنقرة حتى ولو كان الثمن خسارة لاعب إقليمي فاعل بمثل أهمية تركيا، إذا ما تمسكت القيادات التركية في التصعيد والتهديد والحديث عن التآمر الأمريكي ضدها. مطالبة واشنطن بسياسة واضحة حيال أنقرة شيء والتلويح بامتلاك القيادات السياسية التركية لأوراق كثيرة تلعبها ضد الإدارة الأمريكية في المنطقة شيء آخر.
فيما كان جيمس جيري، السفير الأمريكي السابق في تركيا، يردد أن "أي حل لمسألة عفرين يجب أن يلبي الحد الأدنى من شروط الانتصار التركي، على أن يكون مقبولاً لدى التنظيمات الكردية المتحالفة مع واشنطن".
كان رأي أحد الإعلاميين الأتراك المحسوبين على حزب العدالة والتنمية هو أن "رفع العلم التركي في عفرين يعني هزيمة أمريكية أيضاً". بومبيو يعرف بالتأكيد القيمة الجيوسياسية لتركيا، لكن هذا لا يعني أنه اختير بالضرورة لحماية مسار هذه العلاقات، فتيلرسون كان يفعل ذلك بمهارة كبيرة. العلاقات وسط كل هذه المعطيات والأجواء ذاهبة نحو القطيعة وربما المواجهة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة