السعي لفتح قنوات اتصال لم يكن من جانب الغرب وحده
العلاقة بين الغرب و«الإخوان المسلمين» بشكل خاص، وحركات الإسلام السياسي بشكل عام، كانت دائماً مُلتبَسة ومُعقّدة، جلها في السر وفي الاجتماعات المُغلقة وبرقيات أجهزة الاستخبارات والسفارات، وقليل منها في العلن، لم تكن هناك رؤية واضحة أو اتفاق في دوائر صنع القرار الغربية، حول كيفية التعامل مع «الإخوان» ومع حركات الإسلام السياسي المنبثقة من فكر التنظيم والخارجة من رحمه، هل يكون التعامل معهم كعدو شرس، أو صديق لدود، أو كحليف مصلحي مخيف، كونه قابلاً لأن يصبح مثل «وحش فرنكشتاين»؟ هل يتم تصنيفهم حركة دينية تخلط العمل الدعوي بالسياسة لتحقيق أهدافها، أم حركة سياسية تستخدم الدين كغطاء للقفز إلى السلطة، ولا تتورع عن توظيف العنف واستخدام السلاح؟.
تاريخ العلاقات الغامضة والمُلتبَسة بين الغرب وحركات الإسلام السياسي، يبقى في حاجة إلى مزيد من التمحيص والتوثيق لتشخيص كثير من الأحداث، ولمحاولة فهم بعض ما مرت به المنطقة وما زالت، بعدما تسبب الصراع مع هذه الحركات ومع ظواهر التطرف في دمار هائل، وإضاعة عمر طويل.
هذا الجدل لا يزال قائماً اليوم، بعد تسعة عقود على إنشاء تنظيم «الإخوان»، مرت خلالها العلاقة بين الغرب والتنظيم بفروعه المختلفة بمنعطفات كثيرة، تركت بصماتها على المنطقة العربية بشكل خاص، وقد شكل هذا الأمر محور كتاب جديد صدر الشهر الماضي عن مطبعة جامعة «هارفارد»، بعنوان «الإخوان المسلمون والغرب... تاريخ العداوة والتواصل»، من تأليف أكاديمي بريطاني هو الدكتور مارتن فرمبتون، أستاذ التاريخ في جامعة «كوين ماري»، الذي سعى بالبحث في مئات التقارير والوثائق والمراجع، لإلقاء الضوء على هذه العلاقة الملتبسة والغامضة، منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، أي بعد سنوات قليلة من إنشاء التنظيم. ويحتوي الكتاب على معلومات بعضها مثير حول تاريخ هذه العلاقة والمراحل التي مرت بها، من بداياتها وحتى عام 2010، أي قبل الربيع العربي وما صاحبه من أحداث كبيرة، من بينها بالطبع وصول «الإخوان» للسلطة في مصر، وتحقيق حلمهم الذي لم يستمر طويلاً وتحول إلى كابوس، ربما رأى الكاتب أن المجال لا يتسع لمعالجته في كتابه الذي يقع في 662 صفحة.
الأمر الواضح للكاتب، والذي يتكرر في كثير من الوثائق، هو الالتباس في العلاقة وتعقيداتها، إضافة إلى التناقض في نظرة الغرب؛ خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة، لـ«الإخوان» والحركات الإسلامية المنبثقة عن فكرهم، بين اعتبارهم حركات «ظلامية منغلقة» ومصدراً خطراً، وبين التعامل معهم لتحقيق منافع ومصالح، أو كأمر واقع، باعتبارهم رقماً في الساحة لا يمكن غض الطرف عنه، على الرغم من الشكوك في شعاراتهم عن الديمقراطية.
فالغرب سعى منذ بداية التواصل مع «الإخوان» إلى استخدامهم لمواجهة وإضعاف حركات أخرى، مثلما حدث في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما فكر الإنجليز في أنهم يمكن أن يستخدموا التنظيم لإضعاف الأحزاب والشخصيات التي تكافح الاحتلال البريطاني آنذاك، وفي فترة لاحقة سعوا لتحييدهم عندما تخوفوا من تعاطفهم مع دول المحور في فترة الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الصدد يشير الكاتب إلى تقارير لوزارة الخارجية البريطانية آنذاك، تتحدث عن أن «الإخوان» تلقوا أموالاً من ألمانيا، مما أثار قلق لندن؛ خصوصاً أن جيوش دول المحور كانت تقترب من مصر. ويورد مارتن فرمبتون روايات مستقاة من وثائق وشهادات، عن أن لندن سعت أيضاً إلى محاولة «شراء الإخوان» بتقديم أموال لهم.
السعي لفتح قنوات اتصال لم يكن من جانب الغرب وحده، فـ«الإخوان» سعوا أيضاً لفتح قنوات مع الغرب، وتقديم أنفسهم كأصدقاء وحلفاء ضد القوميين والليبراليين تارة، وضد المد الشيوعي والسوفياتي تارة أخرى، أو لمواجهة التيارات المتطرفة الأخرى؛ خصوصاً بعد هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، التي خلطت كثيراً من الأوراق في المنطقة والعالم.
لم يكن ذلك مشكلة لهم؛ لأنهم لجأوا إلى الميكيافيلية كأسلوب عمل، واعتمدوا على منهج التقية وفقه المصلحة لتحقيق غاياتهم، وعلى رأسها الوصول إلى السلطة، ولهذا لم يتورعوا حتى عن عسكرة تنظيمهم.
خلافاً لمعظم الأحزاب والحركات السياسية، كان لـ«الإخوان» ولكثير من حركات الإسلام السياسي المنبثقة من فكرهم، جناح عسكري ضمن عملهم السري، وقدرة على التحول نحو العمل المسلح تبعاً لذلك. وضح هذا الأمر أيضاً في ميلهم المبكر للتغلغل في المؤسسات العسكرية، وتشكيل خلايا مسلحة، يحاولون من خلالها القفز إلى السلطة، أو استخدام العنف إذا وجدوا أنفسهم مُهمشين ومُطاردين. وفي هذا الإطار ربما كان من بين الأجزاء المثيرة في الكتاب، هو تلك الأجزاء المتعلقة بتوجه «الإخوان» منذ بدايات تنظيمهم، وعلى يد زعيمهم حسن البنا، إلى تشكيل جناح عسكري، وتخطيطهم لاختراق الجيش والأجهزة الأمنية للوصول إلى تحقيق غاياتهم السياسية، وهو الأمر الذي انتقل منهم إلى مختلف فروعهم والحركات الخارجة من رحمهم، مثلما حدث في السودان، عندما نفذت جماعة حسن الترابي انقلابها الماكر عام 1989 الذي أطاح نظاماً ديمقراطياً كانوا جزءاً منه، وأثبتوا بالدليل القاطع أنهم لا يؤمنون بالديمقراطية، وإن تغنوا بشعاراتها أو رفعوا لافتاتها.
تاريخ العلاقات الغامضة والمُلتبسة بين الغرب وحركات الإسلام السياسي، يبقى في حاجة إلى مزيد من التمحيص والتوثيق لتشخيص كثير من الأحداث، ولمحاولة فهم بعض ما مرت به المنطقة وما زالت، بعدما تسبب الصراع مع هذه الحركات ومع ظواهر التطرف في دمار هائل، وإضاعة عمر طويل.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة