الولايات المتحدة لن تسمح فعليا بأي انتهاكات أو تجاوزات من قبل تركيا في شرق المتوسط، ولن تقبل مجددا أي اعتداء تركي على دول جوارها
يدخل الصراع الكامن في منطقة شرق المتوسط لمساحة جديدة من المواجهات المحتملة والمباشرة بين الأطراف المعنية، بعد بيان وزارة الخارجية المصرية الذي أكد أن مصر تتابع باهتمام التطورات الجارية حول ما أُعلن بشأن نوايا تركيا البدء في أنشطة حفر في منطقة بحرية تقع غرب جمهورية قبرص، وحذرت من انعكاس أي إجراءات أحادية على الأمن والاستقرار في منطقة شرق المتوسط، وتنامي عمليات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط مناخ الأجواء الإقليمية الحالية التي يشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وروسيا.
الخلاصة أن منطقة شرق المتوسط ستشهد مزيدا من حالة التوتر والتجاذب وربما المواجهة المباشرة، خاصة مع تعقد منظومة الحسابات الاستراتيجية والسياسية للمنطقة التي تعوم فوق بحيرة من الغاز، حيث يقدر مخزون هذه البحيرة بنحو 122 تريليون قدم مكعب، وهو وحده كفيل بالصدام الكامل إذا تعارضت المصالح واختلفت السياسات
هذا يعني أن سيناريوهات جديدة ستعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، خاصة أن ملف شرق المتوسط متخم بتفاصيل معقدة ومتشابكة ومتفاعلة، وتحتاج إلى ضوابط في التعامل، حيث تتنازع تركيا وحكومة قبرص اليونان المعترف بها دوليا على حقوق التنقيب عن النفط والغاز في إقليم شرق المتوسط، فيما يرى شمال قبرص الذي يحظى بدعم من تركيا أن له حقوقا أيضا في أي ثروة بحرية باعتباره شريكا وداعما في تأسيس جمهورية قبرص في 1960، وتؤكد قبرص اليونان أن أي فوائد تجنى من اكتشافات الغاز في المستقبل سيتقاسمها الجميع.
وما زاد من تعقيدات المشهد قيام تركيا بتركيز سفينة الحفر الأولى لها في أكتوبر الماضي للتنقيب أمام ساحل محافظة أنطاليا، وتعمل سفينة أخرى ضخمة لها في البحر الأسود، ورفْضها اتفاقية ترسيم الحدود الموقَّعة عام 2010 بين قبرص وإسرائيل، هذا إلى جانب وجود أزمة بين إسرائيل ولبنان على جزء من حقل غاز يقع على حدود البلدين.
وتتعدد كذلك المواجهات بين مصر وتركيا، فالأخيرة أعلنت العام الماضي اعتزامها بدء التنقيب عن النفط والغاز شرقي البحر المتوسط، ورفضها اتفاقية ترسيم خط الحدود البحرية بين القاهرة وقبرص الموقعة عام 2013، باعتبار أنها تمس بحقوقها الاقتصادية بمنطقة شرقي المتوسط.
يشار في هذا الإطار إلى أن مصر مرشحة أن تصبح مركزا للغاز الطبيعي لمنطقة شرق البحر المتوسط في العقد المقبل بعد سلسلة من كشوفات الغاز الكبيرة على مدى العقد الماضي، حيث تعمل مصر على ضمان جني فوائد منها، وقد وقعت مصر اتفاقا مبدئيا مع قبرص لبناء خط أنابيب تحت الماء يربط حقل الغاز أفروديت التابع لقبرص بالساحل المصري، وفي حال تغلب المشروع على العقبات الكبيرة التي لا تزال ماثلة في طريقه -بما في ذلك التمويل- فإنه يمكن أن يكون خط الأنابيب جاهزا للعمل بحلول عام 2020.
في هذا السياق تجدر الإشارة أيضا إلى وجود اتفاقيات حاكمة للمشهد بين بعض الدول في الإقليم، ومنها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية القبرصية، حيث حددت المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بالدولتين وفقا لقاعدة خط المنتصف، وأيضا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية القبرصية في عام 2007، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية القبرصية الإسرائيلية، حيث قامت الحكومتان الإسرائيلية والقبرصية في 17 أكتوبر 2010 بالتوقيع على اتفاقية تحديد الحدود البحرية بينهما، لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بكل منهما، والتي تم تحديدها أيضا وفقا لقاعدة خط المنتصف، والذي يقع على مسافة 150 كم شمال غرب حيفا.
ورغم تقدير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية مقدرات الثروة في إقليم حوض الشرق (من نهر الأردن إلى حدود قبرص وما يجاورها) بما يصل إلى 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستعادة، و3.500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلا أن نصيب إسرائيل من هذه الثروات غير واضح، ويحتاج إلى آليات عدة تتجاوز البعد العسكري والاستراتيجي، وتتركز على ضرورة طرح البدائل للتعامل مع الدول الممكن الدخول في جدال سياسي وقانوني، وقد أكدت لجنة زيماك التي شكلها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وضع سياسات عامة محددة لتنمية الموارد في المتوسط، بأن الأمر يحتاج إلى حلول جادة ومرحلية وحاسمة وليست مجرد فوائد اقتصادية وسياسية فحسب.
ورغم تقدير أن إجمالي كشوف الغاز يمكن أن تصل إلى ما يبلغ 1.480 مليار متر مكعب فإن لجنة زيماك رأت أن الكشوف المستقبلية لن تكون بهذه الضخامة بعد كشف تامارا وليفياثان الكبيرين، وأن الأمر لا بد أن يقتصر للوفاء بالطلب المحلي على الغاز على مدار السنوات الـ25 المقبلة، مما يطرح ضرورة وضع سياسات ستتعلق بالتصدير ودخول الشركات الأجنبية مضمار المنافسة.
هناك تطورات ثنائية متفق بشأنها لكن -وفي المقابل- تتحفظ عليها بعض الدول، ورغم الاتجاه إلى بناء شكل تعاوني في الإقليم من خلال "منتدى غاز شرق المتوسط"، حيث أعلن وزراء الطاقة في 7 دول إنشاء المنتدى الاقتصادي، على أن يكون مقره القاهرة، والدول المشاركة في إنشاء المنتدى مصر وإيطاليا واليونان وقبرص والأردن وإسرائيل وفلسطين، على أن تكون العضوية مفتوحة لمن يرغب بذلك، إلا أنه لا يبدو من المتصور دعوة تركيا للانضمام للمنتدى، بينما قبرص واليونان وإسرائيل ومصر هم الذين أنشأوه في ظل التوتر الراهن مع تركيا.
ووفقا لمواقف دول الإقليم فإنه يمكن تصنيف الدول لمجموعتين، الأولى تضم مصر وإسرائيل وقبرص واليونان والأردن والسلطة الفلسطينية، وفي المجموعة الثانية تركيا وقبرص الشمالية وسوريا ولبنان، ومن خلفها لاعبون إقليميون آخرون، هما روسيا وإيران وهي ترفض الترتيبات التي تجري، وتبحث عن مسارات بديلة تقوم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
أما بالنسبة للصعيد الإقليمي والدولي فقد دخل على الخط الاتحاد الأوروبي الذي ندد بمواصلة تركيا أنشطتها غير القانونية في شرق البحر المتوسط، ودعا إلى ضبط النفس واحترام الحقوق السيادية لقبرص في منطقتها الاقتصادية الخالصة، والامتناع عن أي عمل غير قانوني، مع احتفاظ الاتحاد بالرد في شكل ملائم وبتضامن مع قبرص، وهو ما دفع الجانب التركي للتأكيد بأن من حق الشعب القبرصي التركي الحصول على جزء من احتياطيات النفط والغاز التي تنقب عنهما قبرص، منددا بالخطوة التي اتخذتها الأخيرة، مع الإعلان التركي بالتنقيب عن الموارد في محيط قبرص، وهي الخطوة التي من شأنها أن تعزز الأجواء بين دول الإقليم وعلى رأسها قبرص واليونان.
وبالنسبة للولايات المتحدة فهي لن تسمح فعليا بأي انتهاكات أو تجاوزات من قبل تركيا في شرق المتوسط، ولن تقبل مجددا أي اعتداء تركي على دول جوارها في منطقة شرق المتوسط، ومن ثم فمن المحتمل أن تزيد الولايات المتحدة من الدعم الذي سيضمن لليونان الوفاء بالتزاماتها في إطار حلف شمال الأطلسي، وأن ترفع حظر الأسلحة المفروض ضد قبرص منذ عام 1987، ومن المحتمل حدوث تغيير محتمل لإدارة ترامب تجاه منطقة شرق البحر المتوسط بهدف مواجهة النفوذ الروسي، وهو ما برز في تقديم مشروع قانون جديد بمجلس الشيوخ طرحه السيناتور الجمهوري ماركو روبيو والسيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز لإعادة رسم السياسة الأمريكية تجاه منطقة من العالم أصبحت بفضل الاكتشافات الكبيرة للطاقة بها والمغامرات العسكرية الروسية والغموض التركي، نقطة تجاذب محتمل بين القوى المختلفة. ويفهم ذلك أيضا في سياق التقارب التركي في الفترات الأخيرة مع روسيا، حيث وقَّعت عقوداً ضخمة في قطاع الطاقة، وعمقت التعاون الدفاعي، ومضت في الفترة الأخيرة في إطار خطط لشراء نظام دفاع جوي روسي الصنع.
الخلاصة.. أن منطقة شرق المتوسط ستشهد مزيدا من حالة التوتر والتجاذب وربما المواجهة المباشرة، خاصة مع تعقد منظومة الحسابات الاستراتيجية والسياسية للمنطقة التي تعوم فوق بحيرة من الغاز؛ حيث يقدر مخزون هذه البحيرة بنحو 122 تريليون قدم مكعب، وهو وحده كفيل بالصدام الكامل إذا تعارضت المصالح واختلفت السياسات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة