لماذا تُصّر تركيا على تعقيد الوضع في ليبيا؟
الانخراط التركي في ليبيا هو أحد أبرز مُسبِّبات تفاقم الصراع وتأجيجه في ظل محاولاتها المستميتة لإنقاذ الحليف من سقوطه في طرابلس.
في الوقت الذي يسعى فيه المجتمع الدولي إلى تكثيف الجهود من أجل حلحلة الأزمة الليبية في ظل انعقاد اللقاءات التحضيرية لمؤتمر برلين المزمع انعقاده أواخر 2019، تحاول تركيا بكل قوتها إنقاذ مليشيات الوفاق من السقوط في العاصمة طرابلس عبر محاولات تسليحها التي تتعارض مع قرارات مجلس الأمن الدولي، وهو ما تجلّى بشكل واضح مع إعلان الجيش الوطني الليبي في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تدمير 19 مدرعة تركية كانت في طريقها إلى مليشيات الوفاق.
تماهٍ أيديولوجي ومطامع خفيّة
تأتي المحاولات التركية الحثيثة خاصةً على مدار العام الجاري بالانخراط بشكل أكثر قوة في الصراع الليبي، على الرغم من بُعد ليبيا جغرافيًا عن الجوار التركي، وعدم ارتباطها بشكل مباشر بأمنها القومي بخلاف سوريا، ليؤكد وجود دوافع خفية أبعد ما تكون عن الخطاب الرسمي الذي يزعم مساندة الحكومة المعترف بها دوليًا في ليبيا؛ وهي حكومة الوفاق.
ويدرك الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان أن انحسار جماعة الإخوان الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط يناقض بشكل أساسي مشروعه التوسُّعي الحالم باستعادة دولة الخلافة المزعومة، فالتقارب الأيديولوجي بين أردوغان والإخوان وكذلك بعض التنظيمات الإرهابية لاسيما تنظيم داعش، يجعل من خسارة ليبيا أكبر من مجرد خسارة دولة؛ لأن ذلك يعني بالأساس وضع حدّ للمشروع الإسلامي الذي تحاول من خلاله تركيا إعادة إنتاج الخلافة العثمانية.
وتعد تصريحات أردوغان في أكتوبر/تشرين الأول 2019 كاشفة إلى حد بعيد، حيث اعتبر أن التدخل التركي في ليبيا نابعًا من كونها "إرث أجداده، وجغرافيتها جزء من الإمبراطورية العثمانية".
والأمر لا يقف عند حدود التماهي الأيديولوجي فحسب، في ظل وجود مطامع متعددة لتركيا في ليبيا، حيث أشارت مصادر موثوقة، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، إلى أن أنقرة قامت بسرقة الذهب الموجود بالبنك المركزي الليبي الواقع تحت سيطرة حليف تركيا؛ حكومة الوفاق، في طرابلس، وهو ما أعقبه تأكيد رئيس لجنة أزمة السيولة بالمصرف المركزي بمدينة البيضاء شرقي البلاد "رمزي الآغا" في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن حكومة الوفاق تستعد لعقد صفقة مع طرف أجنبي لبيع كميات من احتياطي الذهب الليبي، في ظل تقديرات بامتلاك ليبيا نحو 116.6 طن ذهب احتياطي، وهو أمر غير مُستغرب في ظل سعي حكومة الوفاق إلى توفير التمويل اللازم للمليشيات المسلحة بجميع الطرق الممكنة مع احتدام المواجهات مع الجيش الوطني على محاور العاصمة واقتراب حسم معركة طوفان الكرامة.
من جانبٍ آخر، فإنه في ظل تصاعد الطموح التركي نحو تعظيم الاستفادة من ثروات شرق المتوسط، فإن ليبيا تعد هدفا تركيا كبيرا، وهو ما اتضح مع إعلان مسؤول عسكري تركي كبير على ضرورة إعلان تركيا مناطقها الاقتصادية الخاصة، ثم توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، كذلك فإن ثروات النفط الليبية محطّ أنظار أردوغان، حيث تُقدِّر "أوبك" احتياطيات ليبيا من النفط بنحو 48 مليار برميل، بما يجعلها الأكبر في أفريقيا.
تأجيج الصراع وتأجيل الحسم
أعلن الجيش الوطني في منتصف نوفمبر الجاري عن تدمير أكثر من 30 طائرة تركية مُسيّرة تابعة للمليشيات منذ انطلاق معركة طوفان الكرامة في مطلع أبريل/نيسان الماضي، كذلك فإن الجيش قد استهدف خلال الفترة الأخيرة أكثر من غرفة خاصة بعمليات الطيران المُسيّر، في وقت لا تكتفي فيه أنقرة بخرق قرار مجلس الأمن الخاص بحظر توريد السلاح منذ عام 2011، ولكن أيضًا تقوم بإيفاد عسكريين أتراك لمساعدة ومساندة المليشيات في ظل تصاعد هجمات الجيش على العاصمة طرابلس.
وقد أصدر الجيش الوطني بياناً في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ذكر فيه أنه في إطار العمليات العسكرية الشاملة ضد التنظيمات الإرهابية التي انتهكت سيادة الدولة، وبناء على معلومات استخباراتية دقيقة، تم استهداف 19 مدرعة تركية نقلت بواسطة السفينة المدنية التركية (كوسافاك رست) من تركيا إلى ميناء الحديد والصلب بمنطقة مصراتة، ثم تم نقلها وتخزينها لاحقاً وسط المدينة، وتم استهدافها بسلاح الجو بدقة عالية، وهو ما يؤكد الغلبة الجوية الكبيرة للجيش الوطني علاوةً على النجاح الاستخباراتي خاصةً في ظل محاولة أنقرة وحكومة الوفاق اتباع سياسة التمويه والتخفّي من أجل عدم كشف محتوى السفينة التركية المدنية.
وفي محاولة للدفاع عن الحليف التركي، قال رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا "جهة استشارية" خالد المشري، أنه "لا توجد حاجة واحدة ولا رصاصة واحدة آتية من قطر أو تركيا"، دون أن ينفي وجود "تعاون أمني" مع تركيا، حيث يحاول المشري، المعروف بانتمائه لجماعة الإخوان في ليبيا، الدفاع عن أنقرة التي تحاول تكثيف مساعداتها العسكرية لحكومة الوفاق خلال الفترة الأخيرة.
وفي ذات السياق فإن ليبيا تمثل فرصة سانحة أمام أنقرة من أجل نقل المقاتلين والإرهابيين من سوريا إلى طرابلس، وهو ما أكده المتحدث باسم الجيش الوطني اللواء أحمد المسماري في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث أعرب عن مخاوفه من قيام أنقرة بنقل آلاف الإرهابيين من تنظيم داعش إلى طرابلس بعد العدوان التركي على سوريا، حيث تسعى تركيا إلى إطالة أمد معركة طوفان الكرامة ومنع سقوط العاصمة طرابلس في يد الجيش الوطني الليبي.
هندسة التوازنات وإنقاذ الهيبة
تُصّر تركيا على خلق موطئ قدم لها في ليبيا عبر توظيف جميع الأدوات الممكنة من أجل إنقاذ حكومة الوفاق، خاصةً مع تضييق الخناق عليها في العاصمة طرابلس، ونجاح الجيش الوطني في تحقيق تقدم ميداني مهم على محاور العاصمة، حيث تسعى أنقرة إلى فرض نفسها كأحد الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي في إطار هندسة التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط انطلاقاً من المتغيرات المختلفة التي تشهدها دول الصراع في المنطقة.
إلا أن تركيا قد أخفقت عسكريًّا في ليبيا في ظل فشل أسلحتها في ردع الجيش الوطني الذي نجح مؤخرًا في تحقيق الغلبة الجوية، وهو ما استدعى تكثيف أنقرة من دعمها العسكري لمليشيات الوفاق من أجل إنقاذ سُمعة الصناعات العسكرية التركية، حيث إن استهداف الجيش الوطني للطائرات التركية المُسيّرة وإسقاطها بسهولة ضربة قوية لتركيا، وهو ما دعا أنقرة إلى إعلان رغبتها في توريد طائرات مُسيّرة أكثر قوة وفاعلية من طراز TAI ANKA-S، بدلاً من الطائرات المُسيّرة من طراز Bayraktar TB2، والتي تم استهدافها بسهولة من جانب الجيش الوطني الليبي رغم قدراتها الفائقة.
وعلى الرغم من الفشل العسكري فإن أنقرة قد نجحت في فرض نفسها دوليًا كأحد الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي، وهو ما تجلّى بإعلان ألمانيا مشاركة تركيا ضمن القوى الدولية والإقليمية في مؤتمر برلين المزمع عقده أواخر العام الجاري، وهو ما قوبل باستهجان شديد من جانب مجلس النواب الليبي، الذي أعلن في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري رفضه لمشاركة أنقرة باعتبارها تدعم تنظيم الإخوان الإرهابي والمليشيات المسلحة بقيادة حكومة الوفاق، وهو ما يعد بمثابة إساءة للسيادة الليبية والشعب الليبي.
شرعنة المليشيات
وفي المجمل، فإن الانخراط التركي في الصراع الليبي، هو أحد أبرز مُسبِّبات تفاقم الصراع وتأجيجه، في ظل محاولاتها المستميتة لإنقاذ الحليف من سقوطه في طرابلس؛ في ظل تشبث الوفاق بالعاصمة باعتبارها ورقة الضغط الوحيدة والأخيرة، في مقابل سيطرة الجيش على أغلب الأراضي الليبية الأخرى، وتُكثّف أنقرة جهودها المشبوهة في الفترة الأخيرة لدعم مليشيات الوفاق عسكريًا بهدف المحافظة على حد أدنى من القوة التفاوضية لحكومة الوفاق في مؤتمر برلين، ومن أجل فرض حلفاء أنقرة في طرابلس كجزء من الحل السياسي إلى جانب محاولة توفير خروج آمن لقادة المليشيات.
وهو ما تجلّى في تصريحات الإخواني خالد المشري، الحليف المقرب من أنقرة، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حيث قال إنه "لا يمكن إقصاء قادة المليشيات المسلحة باعتبارهم ثوار قاموا بإنهاء عهد معمر القذافي"، وهي الرؤية التركية بالأساس، القائمة على شرعنة المليشيات ومحاولة توظيفها من أجل تأجيج الصراع في المنطقة بشكل عام، وفي ليبيا بشكل خاص، وهي رؤية يرفضها الجيش الوطني الليبي كُليًّا، في ظل إدراكه أن تلك المليشيات وقادتها لا يمكن أن يكونوا جزءا من أي حل سياسي محتمل في ليبيا، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال دمجهم في الجيش الوطني النظامي.
aXA6IDMuMTUuMTcuNjAg جزيرة ام اند امز