رغم كل ما يقال حول نجاح تركيا وإيران في اعتماد البراجماتية لحماية علاقاتهما الثنائية فإن هذه المقولة لا تنطبق على سياساتهما الإقليمية
لا شك أن زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني الأخيرة إلى تركيا كانت تهدف إلى أبعد من أن تكون مجرد مشاركة في أعمال الاجتماع الخامس لمجلس التعاون الاستراتيجي التركي-الإيراني، أو التطلع نحو ضرورة تذكيره الأتراك بالقواسم التاريخية والثقافية المشتركة التي تجمع البلدين، أو محاولة مواجهة الضغط الأمريكي الأخير الذي أدى إلى تراجع العلاقات التجارية بين البلدين من 28 مليار دولار إلى 11 مليار وخيبة الأمل، الحلم الذي كان يتطلع صوب رفع حجم التبادل إلى 30 مليارا. هو أراد أن يلعب الورقة التركية في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها بلاده ضد أمريكا ففاجأه الرئيس دونالد ترامب بقنبلة من العيار الثقيل "أعطيت الأوامر بسحب الجنود الأمريكيين من سوريا بعد ضمانات تركية بإنجاز مهمة القضاء على ما تبقى من فلول داعش" .
ترامب يريد من أنقرة أن تدخل في عملية مراجعة جذرية لسياستها الإيرانية والثمن الأقل الذي سيطالب به الأتراك ليس فقط الابتعاد الحقيقي عن طهران طالما أنه انطلق في عملية عزلها إقليميا وإضعافها في سوريا والعراق ولبنان والخليج، بل تذكير أنقرة بمواقفها المعلنة والمكررة أكثر من مرة حول سياسات إيران في المنطقة
فما كان من روحاني إلا أن يعلن، وهو يستعد لركوب الطائرة في زيارة قصيرة لأنقرة، أن تركيا ودولا إقليمية كررت بشكل صريح مواقفها حول "نهاية مرحلة الإملاءات الأمريكية" في المنطقة، كان ترامب يضع اللمسات الأخيرة على قرار سحب الجنود الأمريكيين من سوريا لصالح تركيا التي تعهدت له بمواصلة خطة الحرب على مجموعات داعش في شرق سوريا.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن القرار الأمريكي الأخير بسحب القوات من سوريا مرتبط مباشرة بسياسة واشنطن الإيرانية والتحضير لخطة تحرك متعددة الجوانب يريد ترامب أن يرى أنقرة إلى جانبه فيها. بشكل آخر هناك جملة من المؤشرات والحقائق التي تقول إن التفاهمات التركية الأمريكية الأخيرة حول الملف السوري لا يمكن فصلها عن قرار واشنطن بالتحضير لخطة تحرك إقليمي ضد إيران وأن المطلب الأمريكي واضح بهذا الخصوص وهو أنه على أنقرة أن تكشف عن موقفها وخياراتها بشكل نهائي وحاسم.
رغم كل ما يقال حول نجاح تركيا وإيران في اعتماد البراجماتية لحماية مسار علاقاتهما الثنائية فإن هذه المقولة لا تنطبق على سياساتهما الإقليمية في التعامل مع أكثر من ملف وقضية. لا يمكن للجانبين، حتى لو كانت مواقفهما أمام العدسات تقول شيئا آخر، أن يتجاهلا حقيقة اتسام العلاقات التركية الإيرانية تاريخيا بالصراع والاصطفافات المتباعدة في الشرق الأوسط.
التصريح الذي أدلى به الرئيس التركي أردوغان، حول أن "إيران تسعى لتقسيم العراق وسوريا، وتتصرف من منطلقات عرقية، وما أعلنه وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو خلال مؤتمر ميونخ الأمني، ويتهم فيه إيران بنشر التشيع في سوريا والعراق، تبرز حقيقة أنه بقدر ما نرى أنقرة القلقة حيال خطة تحرك إيراني ضدها في شرق الفرات لإيقاعها في المصيدة السورية عبر لعب ورقتي النظام في دمشق والنفوذ الإيراني الشيعي في العراق، بقدر ما يبرز القلق الإيراني من أن يكون هذا القرار انعكاسا لصفقة بين واشنطن وأنقرة حول ملفات عديدة، تطلق يد تركيا على حسابها في ملفات إقليمية على رأسها الملف السوري.
حتى لو لم نسمع إلى الآن بأية ردة فعل تركية حول ما أعلنه روحاني قبل قدومه لأنقرة أن "إيران ترى أمن واستقرار تركيا من أمنها واستقرارها "، وحتى لو أعلنت تركيا أكثر من مرة عن رفضها الالتزام بقرار العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وبقي الملف العراقي هو الذي يقربهما خصوصا في شقه المتعلق بمواجهة قرار الاستفتاء الكردي على الانفصال في الشمال والدعم المستمر من جانب الطرفين لقطر في ضوء التقارب الملحوظ في سياسات الدول الثلاث، فالواضح تماما هو أن مسار العلاقات التركية الإيرانية أمام امتحان حقيقي فرضه ترامب من خلال مناورته الأخيرة في المشهد السوري.
حقيقة أخرى لن تقبل بها واشنطن والعديد من العواصم العربية والغربية وهي تتعلق بما قاله أردوغان على هامش لقاءاته بالرئيس الإيراني أنه "من الممكن لتركيا وإيران القيام بالكثير من الخطوات الهامة الرامية لإنهاء الصراعات في منطقة الشرق الأوسط "، وها هي واشنطن تذكره بمناورة روحاني لمحاصرة أنقرة بأن عليها أن تحصل على إذن دمشق قبل تنفيذ أية عملية عسكرية في سوريا.
كان روحاني خلال زيارته إلى أنقرة يعد لتعميق التباعد والخلاف بين تركيا والولايات المتحدة فجاءه الجواب من واشنطن وليس من تركيا حول أن التقارب التركي الأمريكي في سوريا لا بد وأن يرافقه التباعد التركي الإيراني طالما أن واشنطن قررت التصعيد ضد طهران، وهي -أي واشنطن- لن تترك لأنقرة فرصة التذرع بارتدادات سلبية محتملة على علاقاتها مع إيران إذا ما دخلت في لعبة الاختيار بين أحد الطرفين.
"القنبلة الموقوتة" التي رماها ترامب في الساحة السورية مؤخرا تستهدف قبل كل شيء مسار العلاقات التركية الإيرانية. وما قدمه للأتراك على طبق من فضة عبر قرار سحب الجنود من سوريا هدفه منح أنقرة فرصة قد تكون الأخيرة لتراجع مواقفها الإقليمية وخصوصا حيال إيران وسياساتها التصعيدية في المنطقة، وإلا فما معنى أن يبادر الرئيس الأمريكي إلى إطلاق موقف استراتيجي من هذا النوع في سوريا وهو يتابع تقارير واردة من طهران تحذر تركيا من شن عملية عسكرية ضد "قسد" وتهدد التفاهمات التركية الإيرانية هناك؟
ترامب يريد من أنقرة أن تدخل في عملية مراجعة جذرية لسياستها الإيرانية والثمن الأقل الذي سيطالب به الأتراك ليس فقط الابتعاد الحقيقي عن طهران طالما أنه انطلق في عملية عزلها إقليميا وإضعافها في سوريا والعراق ولبنان والخليج، بل تذكير أنقرة بمواقفها المعلنة والمكررة أكثر من مرة حول سياسات إيران في المنطقة. إقناع الأتراك بذلك سيزيد من قلق طهران وغضبها وربما قد يدفعها لتحريك أوراقها المحلية في سوريا والعراق لاستهداف المصالح والنفوذ التركي في البلدين أمنيا وسياسيا.
أردوغان يعرف جيدا أن الجانب الإيراني لن يتردد في ذلك وهو الذي قبل التسويات الأخيرة في جنوب سوريا بوساطة روسية والابتعاد عن الحدود في الجولان، بعدما شعر أن التهديدات الإسرائيلية جادة وها هو يكرر الأمر نفسه في جنوب لبنان تجنبا لدفع الثمن الباهظ إقليميا.
القناعة في صفوف باحثين ودارسين أتراك كثر هي أن إيران استفادت إلى أقصى الحدود من السياسات الإسرائيلية الإقليمية وأن العكس صحيح بالنسبة لتل أبيب أيضا وأن هذه الخدمات المتبادلة حتى لو لم يكن هناك تنسيقا مباشرا حولها فهي تتقدم بعيدا عن الأضواء في سوريا ولبنان تحديدا، عبر شد وجذب يحمي مصالحهما السياسية والأمنية هناك.
أنقرة وكما يبدو أمام خيار وحيد لا مفر منه في الحقبة المقبلة، وهو التضحية بعلاقتها مع أحد الطرفين الأمريكي أو الإيراني، وواشنطن تريد أن تساعدها في ذلك من خلال محاولة كسبها إلى جانبها بجوائز ترضية من هذا النوع، وبعدما قررت توسيع رقعة المواجهة مع إيران إقليميا فهل تفرط في ذلك؟
لن يستغرب أحد بعد الآن بروز التوتر التركي - الإيراني في الملف السوري، لكن ما ليس واضحا تماما هو احتمالات أن تنتقل الأمور إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو بالوكالة. هذا مرتبط بالرغبة الإيرانية التي ستتفاقم حتماً كلما كشف ترامب عن أوراق جديدة.
إصرار أنقرة على أن ترى روسيا إلى جانبها وهي تقبل الاقتراحات الأمريكية الأخيرة سببه ليس إرضاء موسكو بقدر ما هو تجنب ردة الفعل الإيرانية الانتقامية ضدها في سوريا والعراق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة